الجمعة، نيسان/أبريل 19، 2024

وسط هذا الظلام الحالك أطلب الشمس

متفرقات
كل ما أعرفه الآن هو أن هناك ظلاماً حالكاً وأنني وسط هذا الظلام الحالك أطلب الشمس!قصيدة الرجل العنيد - جان تارديو الحوار مع أسامة بعلبكي، في قهوته المعتادة في الحمرا، سلس وعميق. وهو ينتقل بهدوء رصين بين أفكاره الممنهجة وجمله المنتقاة بعناية، إلى أبعاده الفلسفية وإحساسه الرومنطيقي المرهف.لماذا يرسم أسامة بعلبكي؟


بكلماته تلك يجيب: وظيفة الفنان خلق حالة من الغليان، من المدّ العارم، عبر حركية طردية. إنه عمل فيزيائي، مخيلة تنمو باستمرار تتضخم وتتمدد وتكبر. تنقلنا إلى زمن مطاطي. انتفاخ المخيلة والأداء الروحي. يبحث عن الشفاء؛ رغم المشاكل لا ملاذ له من لعبة البقاء الخيالي، دافعاً الآخرين إلى مشاركته.
منذ بداياته في الجامعة اللبنانية، يتنافس الأكاديمي التشكيلي مع الروائي الغامض المحب للفلسفة والشعر. يتجلى ذلك، من خلال التلاعب، بذكاء، بلوحة "الصرخة" الشهيرة للفنان إدغارد مونغ، حيث استبدل رأس الشبح الصارخ برأس كارل ماركس، كدلالة على الألم الناتج عن الحياة العصرية والخوف الإنسانيّ من مرحلة الحداثة. إنها "صرخة ماركس"، ينقلها اليوم في لوحته "قمر وأشجار على حافة الإنهيار" حيث الطبيعة تصارع من أجل البقاء أمام هجوم الحداثة. فتشاهد القمر والغيوم في واقعية تجريدية ومزيج من النزيف البرتقالي الضائع بين أعمدة الكهرباء واللوحة الإعلانية.
شوط كبير قطعه الفنان، من البورتريهات المونوكرومية الرمادية، حيث الغلبة للفكرة على اللون، وصولا" إلى إنفجار اللون المتناغم مع الفكرة؛ فتجد الأزرق والبرتقالي والأحمر في لعبة الضوء المجنونة. ينقلنا الفنان من المنظر الكلاسيكي، إلى شوارع وزواريب بيروت الراهنة. إنه الحالم الرومنطيقي المتناغم مع الواقع الصامت. يضيء مكامن الجمال في غبار أبنية المدينة الرمادي. كاتدرائيات جامدة شاحبة حسب وصفه، أطلالا جليلة، يعرضها في لوحتي "مساء الخير الحمرا!" و"لقاء".
ظلام وإنفجار ألوان. يصف الفنان تلك العتمة الباعثة للنور بكلماته التالية: إنها نظرة من الأسفل تخترق الظلمة، البؤرة الروحية، مزاج من الرومنطيقية المكبوتة حيث يشكل الظلام ملجأ وملاذا لمعالجة وجود ومصير البشر. إنه النور بين الغسق والإضاءة المعاكسة للنور. يستشهد الفنان بمقولة الشاعر الفرنسي، جان تارديو، "أرى الليل يجري في الخندق الضيق" كعنوان لإحدى لوحاته، واصفا أحد شوارع بيروت. حيث الليل الباحث عن بصيص النور المتحدي لاجتياح الباطون الثقيل. هكذا هي جدلية الضوء والظلام.
في المقابل، امتازت بعض لوحات المعرض بإطار بيضاوي ممتع للعين. فيبرز، بذلك، البعد الطفولي الحميمي، في مشاهدة فردية عبر عدسات منظار، من داخل الفرد إلى خارجه.
بين المدينة التي اعتاد وعاش في زواياها والجنوب مخزن الذكريات، تطالعك لوحة "الجنوب البري"، تلك اللوحة التي قدمها الفنان... لوحة الملصق الخاص بذكرى 16 أيلول، تاريخ إنطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، في إحتفالية عام 2016. يتحدث الفنان بحماسة عن سحنة الطبيعة الجنوبية، بشمسها الحارقة وأرضها البرية المتمردة، مشددا على ذلك الفاصل بين عالمين، واحد معتم وآخر يتلون بشهقات الضوء، يتوسطهما زهرة برية شجاعة متمردة تقاتل الظلام وتتوق للحرية. من داخل العتمة تعانق الغيم كالوعيد، لها أذرع تلوّح بالتمرد والوجود الثائر المتشبث بالأرض. حيث المقاومة والعمل النضالي يتجلى في جمالية رمزية بعيدا عن الخطاب التلقيني المباشر.
ولا يكتمل معرض أسامة بعلبكي إلا بذلك الوجود الشقي للبورتريه بالأبيض والأسود لشاعر ثوري من أشهر شعراء الثورة البولشفية، ماياكوفسكي. في إطار حداثي ظريف، حيث الرصاصة تحولت إلى وردة، وفأرة الكمبيوتر قابعة على الصورة. إنه ماياكوفسكي شاعر الثورة والشباب الذي امتاز بحسّه النقدي الهزلي ذي الطابع التجديدي، وبالأخص، عندما كتب - من أهم ما كتب – قصيدة في تشييع لينين، جاء فيها:
إنني أخشى المواكب والأضرحة،
والإعجاب، وهذه التماثيل والقواعد،
أخشى ألّا تنطوي كلها تحت هذه الغلالة العذبة:
لينين وبساطته،
إني لأرتجف من أجله كما أرتجف لإنسان عيني،
فإياكم والأكاذيب وأن تجعلوا مثلكم الأعلى صانع الحلوى.
يرى الفنان أننا نعيش اليوم في مجتمعات ما قبل السياسة، حيث يسيطر التخلف على مستوى الوعي؛ صراعات إثنية وطائفية تعيق تسلل الأفكار السياسية واليسارية بشكل خاص، التي أصبحت محصورة بفئة قلّة. ناهيك عن سيطرة الفكر الديني الإسلامي المتطرف، الذي أصبح بحاجة ماسة إلى إصلاح داخلي. الصراع اليوم هو على الهوية الأولية، بعيدا عن صراع اجتماعي طبقي. مجتمع ريعي غير منتج، برغم كل النكسات التي أصابت النظام الرأسمالي، مازال قادرا على الاستمرار.
التحدي اليوم أمام اليسار هو بإيجاد لغة سياسية جديدة، تستطيع أن تصل إلى الناس، تدافع عنهم ويدافعون عنها، والخروج من مرحلة البقاء على الحياة إلى معركة التمدّد وطرح مشروع يحاكي اللحظة التاريخية والوعي الزمني. مشددا على الحدّ من الطموحات الواهية، والخروج من الإطار اللفظي نحو واقع الحياة. نحن بحاجة إلى عضلات حقيقية تلامس الواقع.
إذا كانتِ النجومُ قد أوقدت،
فهيَ إذن ضرورية لأحدٍ ما،
ويعني أنَّ أحداً ما بأمسِّ الحاجةِ إليها،
فلتشعّ فوقَ السقوفِ في كلِّ ليلةٍ ولو نجمة واحدة...!
)قصيدة "إصغ"- ماياكوفسكي(

# موسومة تحت : :