الخميس، نيسان/أبريل 18، 2024

الأزمة المالية في لبنان: دروس من ماركس - غسان ديبة - موقع صفر

  ادارة الموقع
متفرقات
الأزمة المالية في لبنان: دروس من ماركس
ماركس ضد سبنسر غسان ديبة 05 كانون الثاني 2023

"يؤدّي نظام الائتمان إلى تشريك مال الآخرين للاستعمال من قبل القلّة… وتبدو كلّ قوى المجتمع الإنتاجية وكأنها وضعت بيد الفرد. وهذا الأمر يُسكره وبدوره يُسكر الآخرين ويخدعهم".

 رودولف هيلفردينغ

أرسى كارل ماركس في كتابه "رأس المال" نظرية حول ديناميكيّات الاقتصاد الرأسمالي وقوانين حركة رأس المال، وتلعب الأزمة في الرأسمالية دوراً أساسياً في هذه الديناميكيّات. وخلافاً للاقتصاد الكلاسيكي الذي رأى في الرأسمالية نظاماً ميكانيكياً مستقرّاً، رأى ماركس فيه نظاماً غير مستقرّ، وكان أول من حلّل بشكل واسع الدورات الاقتصادية، فهو اكتشف "نبض الاقتصاد الرأسمالي" كما قال الفيزيائي فيليب بول في كتابه "الكتلة الحاسمة"، ويضيف بول "أنه نبض متقلّب… وأن الكثير من النظريات التي طوّرت منذ ماركس يمكن وصفها بأنها محاولات عقيمة لترويض ما لا يمكن ترويضه"، أي التقلّبات في الاقتصاد الرأسمالي. الجدير بالذكر أن نظريات ماركس حول الأزمة والدورات الاقتصادية مُتعدّدة، كما أن الاقتصاد الرأسمالي تغيّر وتطوّر في اتجاهات عديدة منذ القرن التاسع عشر وحتّى الآن. وأكثر هذه التغيرات مؤخّراً كانت في مجال "أمولة رأس المال"، أو منحى الرأسمالية لتتحوّل أكثر وأكثر إلى المجال المالي. وهنا أتت مثلاً أزمة 2008 لتنفجر في المجال المالي أولاً، ومن ثمّ تنتقل إلى الاقتصاد الحقيقي مُحدِثة ركوداً لا مثيل له منذ الكساد العظيم في 1929. بعد هذه الأزمة أعاد الكثيرون اكتشاف ماركس بعد فترة من "الركود" في الماركسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991 وصعود نجم فرانسيس فوكوياما حول النهاية الليبرالية للتاريخ. عاد ماركس في 2008 ولم يغادر حتّى الآن لأن الرأسمالية مستمرّة في سيرها في ديناميكية مُنتجة للأزمات أبرزها اليوم أزمة المناخ وعدم المساواة والركود الطويل الأمد والأزمة التكنولوجية المقبلة والحروب التجارية.

2008 وماركس

كانت الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في 2008 مع انهيار ليمان بروذرز في 15 أيلول/ سبتمبر بمثابة مفاجأة لم يتوقّعها إلّا قلّة، فهي أتت بعد فترة زمنية بدا فيها وكأن النظام الرأسمالي لم يعد يشهد أزمات دورية عميقة. فظن الجميع أن الرأسمالية تخطّت هذه المعضلة التي رافقتها منذ منتصف القرن التاسع عشر. اندلعت هذه الأزمة المالية في سوق المشتقّات المالية التي توسّع استخدامها بشكل كبير بوصفها أدوات للسيطرة على المخاطر، إلا أنّها بالفعل كانت أدوات مُبتكرة من أجل تعزيز الأرباح في القطاع المالي، وهو الرابط الذي أنشأه ماركس بين السعي إلى الربح والمنافسة وبين الابتكار في الرأسمالية. يقول ريتشارد بوكستابر أحد أهم الماليين الذين عملوا في الأسواق المالية الأميركية، في كتابه "شيطان من تصميمنا": "لقد لاحظ كارل ماركس أن النظام الرأسمالي بحاجة إلى توسّع دائم للأسواق من أجل المحافظة على الربح. من أجل أن تنجح الرأسمالية عليها أن تتقدّم إلى الأمام عبر تطوير منتجات جديدة أو فتح الأسواق في المستعمرات المتخلّفة. الابتكار يخلق منتجاً جديداً يسبق الأسواق، أما التوسّع الخارجي فيؤمّن الأسواق للمنتجات الحالية. إن النظرة الماركسية تنطبق حرفياً ومجازياً في آنٍ على الرغبة في الابتكار في المنتجات المالية". ويضيف بوكستابر: "أن المستثمرين في سندات القروض الطويلة الأمد كانوا سوقاً "متخلّفة" بالمعنى الماركسي وكان من السهل "استغلالهم" من الذين كانوا يستطيعون أن يستعملوا النماذج المعقّدة والخبرات المُتخصّصة وطوّروا مشتقّات مبنية على  قروض المنازل. كان كلّ ابتكار يضيف تعقيداً للأسواق لسبب بسيط وهو أن التعقيد كان يُباع ويحقّق أكثرية المال". إذاً، لم يكن مستبعداً أن يعود ماركس بعد 2008 بعد أن تبيّن أن نبض الرأسمالية لا يزال ينتج الأزمات، التي كانت هذه المرّة مرتبطة بالابتكار المالي وعميقة جدّاً. إذ لولا تدخّل الفدرالي الأميركي والحكومة الأميركية والمصارف المركزية والحكومات حول العالم لكانت الأزمة أطاحت بالرأسمالية كما نعرفها. ولهذا كتب جورج ماغنوس "أعطوا كارل ماركس فرصة لإنقاذ العالم"، في بلومبرغ في 2011، عندما كان لا يزال المستشار الاقتصادي الرفيع في بنك UBS العالمي.

انتقلنا من مالية كانت على حدود المضاربة إلى مالية بونزية (وهي لم تكن بونزية احتيالية التي يظن الكثيرون أنها كانت مقصودة من المصارف) وكلّ ما حصل بعد ذلك هو الآن من التاريخ كما يقال

الأزمة اللبنانية وماركس

إذا كان من الممكن مقاربة أزمة 2008 العالمية من منظور ماركسي فهل ينطبق ذلك على أزمة لبنان المالية في 2019 المستمرّة حتى الآن؟ كما ذكرت سابقاً، لم يكن لدى ماركس نظرية واحدة حول الأزمة في الرأسمالية، إذ لديها أوجه عديدة، وهذا ما يسمح لنا بمقاربة الأزمة المالية في لبنان ليس فقط بشكلها النهائي الذي اتخذته في 2019 وإنّما أيضاً في التطوّرات الاقتصادية السياسية التي سبقت حدوث الأزمة. وهذه الأوجه في السياق اللبناني هي التالية:

أولاً، إن إحدى نظريات ماركس حول الأزمة هو ميل معدّل الربح للانخفاض. وإذا نظرنا إلى تاريخ المصارف في لبنان، نرى انخفاض معدّل الربح بعد 2009 في منحى شبيه بانخفاضه بين عامي 2000 و2006 بعد الفترة الذهبية في التسعينيات. من هنا أتت الحاجة إلى "الابتكار المالي" الشبيه بأدوات المشتقّات المالية التي تكلّم عنها بوكستابر أي "بيع التعقيد" فأتت "الهندسات المالية" التي بدأها مصرف لبنان في 2016، والتي أريد لها أن تصيب عصفورين بحجرٍ واحدٍ كما يقال. أولاً، تحقيق المصارف أرباح كبيرة، وثانياً، تدفّق العملة الصعبة للحفاظ على استقرار الليرة اللبنانية. حصل الأمر الأول، أمّا الثاني فبشكل مؤقت، إذ أن ارتفاع الودائع لدى المصارف بعد 2017 كان أكثره من تراكم الفوائد. وقد ارتفعت معدّلات الفائدة بشكل كبير في 2018 قبيل الأزمة. في الوقت نفسه، تزايدت إيداعات المصارف لدى مصرف لبنان مؤدّية إلى ما يمكن تسميته المصرف الفائق (أنظر هنا) وذلك بمحاولة أخرى للحفاظ على معدّل الربح للقطاع المالي. فانتقلنا من مالية كانت على حدود المضاربة إلى مالية بونزية (وهي لم تكن بونزية احتيالية التي يظن الكثيرون أنها كانت مقصودة من المصارف) وكلّ ما حصل بعد ذلك هو الآن من التاريخ كما يقال. وهنا التقى كارل ماركس مع هايمان مينسكي.

ثانياً، انسلاخ الاقتصاد عن الملكية الخاصة للأفراد. إن إحدى خصائص الرأسمالية هو الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج، كما الملكية الخاصة لكل أشكال الرأسمال، بما فيها النقد، فإذا اعتبرنا أن هذا يعني أن الملكية الخاصة للنقد في المصارف أو الودائع هي للأفراد، فقد أطاحت الأزمة في لبنان بهذا الأمر، وأصبحت قيم هذه الودائع والحقّ فيها خاضعة للقوانين والاقتصاد السياسي. وهذا أمر يمكن وصفه بانسلاخها، أي الودائع، عن الملكية الخاصّة، وهي من خصائص الرأسمالية المالية. يقول ماركس إن هناك "أرستقراطية مالية جديدة، نوع جديد من الطفيليات في أشكال من المروِّجين والمضاريين ومدراء إسميين؛ نظام متكامل في الاحتيال والغشّ بواسطة الإصدار والمضاربة بالأسهم والتلاعب بالشركات. إنه إنتاج خاص من دون ملكيّة خاصّة". إذاً، ما حصل في لبنان هو أن المودعين هم أصحاب الملكية الخاصّة، إمّا استعمالها فلم يعد بأيديهم. فبعد أن وضعت في المصارف باتت تخضع للعمليات المالية الساعية للربح ولتصرّفات هذه الطبقة الأرستقراطية المالية، التي تقرّر أين تستثمر الأموال وكيف، وتصرّفاتها هذه الساعية للربح - كما رأينا - تنشئ الهشاشة المالية، وبالتالي فإن انفجار الأزمة عنى انتهاء العلاقة المباشرة للودائع بالملكيات الخاصّة.

ارتفاع الفوائد على الرأسمال الصناعي جعله يقيم صفقة مع الرأسمال المالي بحيث تمّ تجميد أجور الطبقة العاملة بين عامي 1996 و2008، وضرب الحركة النقابية، وكانت سلسلة الرتب والرواتب التي أقرّت في 2017  بمثابة انفجار الصراع الطبقي في هذا المجال

ثالثاً، دور التوزيع بين رأس المال والعمل في الأزمة. باختصار، لقد كان السعي الدائم لسيطرة رأس المال واستحواذه على أكثرية الدخل والثروة سبباً أساسياً في تحضير الظروف المواتية للأزمة. يظن كثيرون أن الدَّيْن العام ليس إلّا وسيلة للدولة الشريرة في لبنان الممتلئة بالفاسدين الذين يسرقون المال العام. لكن الحقيقة غير ذلك (على الرغم من وجود الفاسدين)، فالدين العام الذي تراكم منذ 1992 كان نتيجة التقاء الحاجة إلى بناء دولة الطائف من جهة مع دوافع الرأسمال المالي الصاعد من جهة أخرى. فكان الدَّيْن العام وسيلة لزيادة أرباح الرأسمال المالي بالإضافة إلى الرأسمال بشكل عام. فالرأسمال استفاد من ثلاثة أمور: الأول، انخفاض الضرائب على رأس المال الذي أحدثته الإصلاحات الضريبية في 1992. الأمر الثاني، اكتتابه بسندات الدين العام أو ما يعرف بسندات الخزينة بفوائد مرتفعة إن بالعملة الوطنية أو بالعملات الأجنبية. والأمر الثالث، الإنفاق العام للدولة الذي تحوّل إلى أرباح للقطاع الخاص.

حدث كل هذا في ظل تثبيت سعر الصرف، الذي حوّل هذه العوائد الإسمية إلى عوائد حقيقية. كما أن تثبيت سعر الصرف أحدث فورات استهلاكية، أوّلها في التسعينيات وثانيها في السنوات قبل 2019، وهذه الفورات شبيهة بما مرّت به الدول الرأسمالية المتقدّمة باستعمال الدَّيْن الخاص في رفع الاستهلاك قبل أزمة 2008. وقد أفاد رفع الاستهلاك في لبنان وارتفاع الاستيراد الطبقة الرأسمالية التجارية، وحقّق دعماً سياسياً للنموذج الاقتصادي من قبل الطبقات الوسطى والعاملة.

في ظل كل هذا ازدادت الفوارق الطبقية، فازدادت حصّة الأرباح من الناتج المحلّي وارتفعت نسبة الرأسمال إلى الناتج في ديناميكية أساسها ارتفاع عوائد الرأسمال مقارنة بالنمو، وهي المعادلة التي وضعها توماس بيكيتي. في لبنان تمّ قياس هذا الفارق من قبل البنك الدولي  في تقرير صدر عام 2015، احتسب معدّل الفارق بين العائد على الرأسمال وبين النمو الاقتصادي بين عامي 1993 و2013 وقد بلغ 2.5% سنوياً، وقال إنه "مرتفع"، وهو بالمناسبة قريب من الفوارق التي سادت في العصر المذهب في الولايات المتحدة في نهاية القرن التاسع عشر عندما كانت الفوارق الطبقية كبيرة.

كما أن ارتفاع الفوائد على الرأسمال الصناعي جعله يقيم صفقة مع الرأسمال المالي بحيث تمّ تجميد أجور الطبقة العاملة بين عامي 1996 و2008، وضرب الحركة النقابية، وكانت سلسلة الرتب والرواتب التي أقرّت في 2017  بمثابة انفجار الصراع الطبقي في هذا المجال.

إذاً، كل ما سبق من ارتفاع الفوائد، وتثبيت سعر الصرف، وخفض الضرائب على الرأسمال، والفارق بين العوائد والنمو الاقتصادي، وتجميد الأجور، ثمّ انفجارها في سلسلة الرتب والرواتب، كانت من العوامل المساعدة والمُحضّرة لأرضية الهشاشة المالية التي انفجرت في 2019.

الدين العام الذي تراكم منذ 1992 كان نتيجة التقاء الحاجة إلى بناء دولة الطائف من جهة مع دوافع الرأسمال المالي الصاعد من جهة أخرى. فكان الدَّيْن العام وسيلة لزيادة أرباح الرأسمال المالي بالإضافة إلى الرأسمال بشكل عام

رابعاً، وربّما الأهمّ، تدمير الرأسمال من خلال الأزمة. فكما قال ماركس تقوم الرأسمالية بـ"تدمير الرأسمال من خلال الأزمة". اليوم حدث هذا التدمير في لبنان. فعلى الرغم من أن الكثيرين لا يزالون يعتقدون أن طبقة الأرستقراطية المالية لا تزال مسيطرة في لبنان، فإن الحقيقة غير ذلك. فالطبقة الرأسمالية الريعية انتهت مع الأزمة. التدمير الذي حصل للرأسمال المالي والمصرفي أنهاها. ومع هذه النهاية التي يمكن وصفها بالتراجيدية، يمكننا أيضاً الإعلان عن انتهاء النموذج الاقتصادي القديم الذي لا يمكن بعد اليوم إعادة تركيبه.

إن الأزمة التي لا تزال تعصف بالاقتصاد اللبناني لم تكن أزمة دورية بل أزمة شبيهة بأزمة 2008 في الولايات المتحدة، ولكن من دون أن يكون لدى الدولة والمصرف المركزي لا الأدوات ولا الرغبة في التدخل، فأطاحت الأزمة ليس فقط بالمؤشّرات الكمّية للاقتصاد مثل الناتج والتضخّم والمداخيل، وإنّما بالنموذج الرأسمالي القديم كلّه. إذا، نحن الآن على مفترق بحيث أن نموذج رأسمالي جديد سينبثق من الأزمة. وحتى الآن لا تبدو في الأفق ملامح طبقة رأسمالية جديدة صاعدة ولكن في ظل غياب بديل طبقي آخر ستبرز هذه الطبقة عاجلاً أم آجلاً (مثلاً نشهد اليوم تقدّم الجناح الخارجي للرأسمال اللبناني في الخليج العربي وأفريقيا) ومعها ستبرز إمكانية الانتقال إلى اقتصاد جديد لن يكون القديم إلّا جزءاً غير أساسي فيه، فالأزمة أنهت الطبقة الريعية القديمة وأنهت النموذج الاقتصادي القديم.

غسان ديبة عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني، أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU). تتركّز أبحاثه حول الاقتصاد السياسي والاقتصاد الماركسي وتأثير أنظمة الذكاء الاصطناعي.