الخميس، آذار/مارس 28، 2024

تحية إلى مهدي خليل في ذكرى رحيله

رأي
(تجّار الهيكل... بيننا)

أن يكون الإنسان مبدئياً، فهذا أمر مستحب، لا بل هو مطلوب؛ فالمبدئية، ليست فعلاً أخلاقياً فقط بل هي، قبل كل شيء، سلوك "إرادوي" نابع من تربية صافية من الأنانية وحب الذات، ومنزّهة عن المصلحة الخاصة. هي نمط عمل يقوم على القناعة، بالقول والممارسة وبوضوح. هي ذلك الفضاء المفتوح والأفق الواضح والحدود المعلومة. لا تهتز ولا تضعف ولا تلين؛ تدفع ثمن ثباتها ولو في ذلك حياتها. ومتى اهتزت سقط الهيكل وتحوّل إلى مكان للربا وللتجارة ولمواقف "غب الطلب".

هي تلك المدرسة التي تراصفنا على مقاعدها بقناعة موصوفة، لا تشوبها شائبة، بل بفهم منطلق من واقع اجتماعي اعتقدنا بتغيره. لقد كان الحلم، الحلم الذي يُعطي للفلاح المطر كي ينمو الزرع ويعلو. والذي يُعطي للعامل الأجر الذي يستحقه، وللفقير الأمل في يوم آخر سيكون جميلاً؛ يأكل ولا ينام جائعاً، يحلم بالغد المشرق الخالي من الظلم والعوز والتبعية والكدّ والتعب.
هو ذلك الركب الذي انتفض على واقعه، فتقدم الصفوف معانداً مناضلاً، لا تصده حدود ولا تمنعه سدود. آمن بعدالة قضيته فناضل من أجلها حدّ الاستشهاد. تقدم الصفوف من دون أن ينظر إلى الوراء، لا بل جعل دوماً من قرص الشمس مساراً له، فمضى بعيداً، حيث الحلم الجميل؛ ولكم كانت تلك الدرب صعبة وشائكة: لقد أصبحت المبدئية تهمة وعيب، والاستزلام شطارة والكذب منهج. تجار الهيكل ومرابيه بيننا اليوم، يفتون ويمضون ويقولون وينهون... لا تردعهم قيم ولا أخلاق، تركوها على أرصفة الحياة المتهالكة ومضوا، حيث المصلحة تكون، يلعقون فتات الموائد وهم شاكرين ومسبحين بنعمة أوليائهم. هم بيننا، يعيثون فساداً، غير آبهين بقيم أو أخلاق. لقد حجبوا نور الشمس ومهبّ الهواء. دخلوا الدار، لا بل دخلوا غرفه، عششوا في كل زاوية، اختّلت قيمهم وتهافتت؛ لقد أصبح العميل يفتي بالمقاومة والسارق ينهي عن المنكر واللص المرتشي والفاسد يأمر بالمعروف.
قلة هي من ادخرت قرش أخلاقها الأبيض لأيامها السوداء؛ المرابون على الباب، وما في اليد العارية إلّا إرادة ونيات صافية، لكن أين تُصرف تلك الأخلاق ودكاكين العمالة تسد الأفق. أين تُصرف وما بقي منها إلّا الاسم وليس المعنى. وصلت إلى حدود الحصن، مسّت بعض أحجاره لكنها لم تستطع كسرها، تركت ندوباً يمكن إصلاحها أو تبديلها، وبعض من بهتان لون يمكن تلميعه. قلة كانوا، وبقوا كذلك...
كنتَ منها كما كثيرين، ساروا الركب مرفوعين الرأس؛ هم خميرة الأرض الطيبة وملحها والتي ستُعطي النسغ الذي يمد الحياة بعناصر نموها، وستنبت في حقول صحارى عالمنا العربي المترامية واحات من الخير، وستعاود الشمس دفئها... رَحلتَ وكثيرين، مضيتم إلى حيث الخلود، وبقي المسير مستمراً، يتعثر بحجارة الطوائف والمذاهب وهي تكبر رويداً رويداً، يُعاند يكابر، يحفر الصخر بأظفاره، لا يكلّ ولا يملّ، تَعِب من كدح المشوار، شاخ مبكراً، فكما يقولون، الخوف والتعب والعمل المضنى يذهب بالشباب، لكن نضرة الأفكار وتجديدها سيعيد بشاشة وجهه المشرق دوماً... وسيتابع، غير مبالٍ بالعواء المتكاثر من حوله. لنا فيكم المثل، ولكم علينا المتابعة... وسنتابع.
وردة حمراء من مجد وصوفي إلى من يتكلمون عنه ويحبونه... لكن لم يعرفوه...

* عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني [1]