الجمعة، آذار/مارس 29، 2024

اليسار... والدور المفقود

  د. حسن خليل
رأي
لا جوابَ شافياً يمكنك الركون إليه، لكن من المؤكد بأن ثمة دوراً مفقود أو مفتقداً يجب العودة إليه لاستعادته ممن استغلوه وشوهوه، وللأسف من بعض قوى لمّعت شكلها ورتبت مفرداتها للتعمية؛ سلوكها يستدعي الريبة كما التصدي له... فلنبادر بالعودة إلى الأصل، ولاستعادة الدور الطبيعي ليسار، لا زالت أصواته تُسمع في أرجاء العالم العربي.

هي تقاطعات متناقضة في المشهد السياسي الشرق – أوسطي، ترخي بثقلها على مستقبل المنطقة المترامية الأطراف. فالطرق المتداخلة بين دولها وقضاياها، والمرتكزة بأساسها على موازين قوى، ربما تكون متقاطعة، تحاول جاهدة إعادة رسم خطوط اشتباكها في منطقة شديدة التعقيد. فبركان "قلب العالم" الناشط دوماً، لا بدّ وأن يقذف حممه لتطاول كل اتجاه. الصين والولايات المتحدة الأميركية وروسيا، مثلث بأضلاع حادة، ولكل منها أهدافه الاستراتيجية، والتي يعمل جاهد على تحقيقها، مهما كان الثمن وكانت نتائجه. هي منطقة بمرتكزات ثابتة، على أرض متحولة، ما يجعلها في حالة من التوتر الدائم والتبدّل المستمرة. لم يستطع المشروع الغربي، المزروع فيها منذ قرن من الزمن، أن يتملّك فيها، بل ظل مستأجراً وإن بعقود طويلة الأمد، ليصح عليه لقب صاحب الدار.

اليوم، هناك خطوات متسارعة نحو الاصطفاف والهرولة نحو المزيد من التعري، والتضحية بكل ما تبقى، لقد فرّطت الدول العربية حتى بماء الوجه. لقد أصبحت، منطقة الزلازل المستمرة والعائمة على آبار النقمة المتوارثة، على مشرحة التقييم لأدائها وسلوكها ووظيفتها وضرورتها. ربما هنا مكمن الخطر؛ فانتهاء مفاعيل دول سايكس بيكو وأدوارها، سيؤدي، في كل الأحوال، إلى إعادة صوغ الوظائف المفترضة للكيانات الموجودة ربطاً بما سيستجد، وربما بالجغرافيا. عملية صوغ تلك المهام ستأخذ في الاعتبار مصالح القوى المؤثرة، القديم منها والمستجد. طريق الحرير، كما طريق حيفا / الخليج، كما طريق سد النهضة، كما طريق التطبيع... كلها تمر على تقاطعات الدول العربية ومفارقها وداخل حدودها. فركّاب القطار في مكان والسكّة في آخر والسائق ومساعدوه بهموم مختلفة. لقد دفعت الدول العربية الثمن مرتين: مرة مع بداية المئوية الآنفة وأخرى مع نهايتها وبداية القادمة، فكيف لبلاد "العُربْ" أن تبقى أسيرة التجربة نفسها؟ فمخاض التكوين وإعادة التكوين يتكرران وبالشروط نفسها، لا بل، ربما إعادة التكوين ستؤدي إلى إلغاء الكيانات الموجودة لمصلحة أخرى، ستكون هجينة أو مفتعلة، خدمةً لمشروع لا يزال يمارس منطق البلطجة وسلوكياتها منذ أكثر من مئة عام.

التفاوض اليوم على أشدّه، بين قوى عالمية مقتدرة وأخرى إقليمية، قد تبدو صاعدة. الثمن المطلوب دفعه لن يكون من كيس أي من المتحاورين، بل من كيس الدول العربية وشعوبها. لماذا هذه الاستكانة المخجلة والمريبة؟ لماذا هذا التفريط المشتبه فيه حدّ التواطؤ والإجرام؟ لماذا ستبقى شعوبنا أسيرة مفاعيل منظومات سياسية، بنكهات عائلية وقبلية وعشائرية ومذهبية وطائفية... تعبّ من ماضٍ ليس لها فيه إلّا أخبار الثأر والغدر والدسائس والأدوار الملتبسة. دروس التاريخ يجب الاستفادة منها، للتعلّم والعبرة، كي لا نقع في "الجب" أكثر من مرة. أمّا الأدوار الثانوية والذيلية، التي تتسابق عليها بعض الأنظمة العربية، فما هي إلّا لإرضاء صاحب الأمر، حتى ولو كانت على حساب التاريخ والجغرافيا والإنسان والقضايا.

هذه هي حال الأنظمة، أمّا الشعوب وقواها فماذا عساها تقول؟ يُقال بأن الضرب بالميت حرام، وهذا صحيح لأنه سيكون من غير ذي فائدة. لقد تحملت الشعوب وزر مئة عام، فيها كثير من الهزائم وقليل من الانتصارات. فالقوى السياسية، سواء أكانت أحزاباً، قومية ويسارية أو برجوازيات محلية أو قوى إسلامية وغيرها... خاضت تجاربها متكئة، بشكل أساسي، على معركة التحرر الوطني، ثم جاءت "كارثة" فلسطين المسماة "نكبة"، لتُعطي تلك القوى القضية التي ستعلق عليها كل مواقفها أو مقارباتها أو لاستخدامها شمّاعة لا بدّ منها عند الضرورة. مئة عام ونيف، هي المدة التي أعقبت وعد بلفور المشؤوم؛ لا فلسطين عادت ولا شعوبٌ حكمت. العلة ليست إذن في القضايا بل بمن يحملها. لم تستطع تلك التركيبة الهجينة بين قوى اليسار، القومي منها أو الماركسي، أن تخطّ لنفسها مساراً مشتركاً لخوض استحقاقي التحرر الوطني والتحرير، ونتائج تلك التجارب المحققة، على قلتها، فيها من المرارة والدماء التي بلغت حدّ الركب، ما يضعها أمام المساءلة وإعادة التقويم. أمّا القوى الاسلامية، التي برزت في بعض الجبهات، وحاولت تقديم نفسها كبديل طبيعي موائم لطبيعة التركيبة الدينية للمنطقة، خضعت بدورها لفخ التكوين المذهبي لقواها المرتكزة على إرث تاريخي، فوقعت في فخ سقيفة بني ساعدة وموقعة الجمل، وغاصت في رمالهما ولم تخرج منهما حتى اليوم. ومن جانب آخر، لم تتمكن كل تلك القوى الآنفة الذكر وبفروعها المتعددة، من تخطي الفهم الملتبس لطبيعة الصراع، وبالتحديد فهم حقيقة الصراع الدائر في منطقتنا، ربطاً بالتباس الأدوار، وبكيفية توحيد النظرة حول القضية الفلسطينية بالتحديد.

إن التعاطي مع قضية فلسطين كقضية حقوق أرض وشعب فقط هو تعاطٍ قاصر النظرة. كما القفز فوق الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني بإقامة دولته على أرضه، أيضاً لا يجوز. فالفهم المركّب لهذه المسألة يجب وضعه في إطاره الصحيح؛ تبيان طبيعته وأهدافه ومن بعدها آليات الصراع. هذا المعيار يُقَاربْ، ليس من نواحٍ أخلاقية، بل من نواحي المشروع السياسي الذي أوجده، والذي أتى إلى المنطقة مثقلاً بعبء رأسمالية منتصرة في حروب إمبريالية، هدفت إلى إعادة تركيب الأمور وفق مقاربة استجدت بفضل عوامل كثيرة، وليس أقلها صعود مدوٍ لرأسمالية متوحشة تخطط للسيطرة على أسواق العالم قاطبة. وعلى هذا الأساس، تأخذ قضية فلسطين بعدها السياسي، الذي قضى بتحويل أرضها إلى موقع متقدم لذلك المشروع، بشعاراته السياسية وبأهدافه، كما بتكوينه الديني الملتبس... ليُؤَسس على هذا الفهم الواضح المنطق النضالي، الذي يجب الانطلاق منه للانخراط في معركتها، وأيضاً بكيفية التعاطي مع الواقع الدولي المواكب ونظامه كوحدة تحليلية واحدة وليس كأجزاء متفرقة، سواء أكانت متناقضة أم متقاربة.

هي إذن مواجهة مفتوحة. خطوطها تتقاطع وقضاياها تتشابك؛ ملعب الدول العربية ميدانها، أمّا اللاعبون فهم من خارجه. ليست أحجية صعبة الفهم أو معادلة مستحيلة التفكيك؛ لقد نزل الأصيل ليأخذ الدور وبالمباشر وما على الأنظمة التي سُمّنت وحُضّرت لمثل هذا اليوم، إلّا أن تتهيأ لأوان نحرها؛ هي "سلخانة" مفتوحة، لا تمييز ولا تفضيل. الأرض قيد التوزيع والشعوب قيد التجويع والقضايا قيد التمييع. لا صوت يعلو فوق صوت التزلف والدعاء، ولا سلوك إلّا الخنوع والإفراط في التبعية والارتهان، وهذا ما يجري ويُسمع دويه بين العواصم العربية.

هي لعنة التاريخ والجغرافيا، تنمو متسارعة وتجوب البلاد، لقد أطاحت بأي إمكانية لإحداث التغيير المنشود. العجز النابع من الطبيعة التكوينية للأنظمة والدول امتدت إلى الشعوب؛ فكيف لشعوب عربية أسقطت نظماً سياسية كانت "مغرّزة" في أرضها، أن تعيد انتخاب الأسوأ منها وهي في عز انتفاضتها؟ ربما، في هذا السؤال يوجد بعضٌ من حقيقية مرة، فيما لو أتي الجواب مشككاً في كل ما حدث وما يحدث. الغياب المدوي لليسار الوطني المقاوم للمشاريع الاستعمارية، والمنحاز إلى مواجهة تداعيات البؤس الاجتماعي الذي تعانيه شعوبنا العربية، بات أمراً مشتبهاً فيه حدّ الارتياب. هل أصابه الوهن والتبست عليه القضايا ففقد قابليته على المبادرة، أم وقع في فخ التسرع في التحليل فأصابته الخيبة؟ لا جوابَ شافياً يمكنك الركون إليه، لكن من المؤكد بأن ثمة دوراً مفقود أو مفتقداً يجب العودة إليه لاستعادته ممن استغلوه وشوهوه، وللأسف من بعض قوى لمّعت شكلها ورتبت مفرداتها للتعمية؛ سلوكها يستدعي الريبة كما التصدي له... فلنبادر بالعودة إلى الأصل، ولاستعادة الدور الطبيعي ليسار، لا زالت أصواته تُسمع في أرجاء العالم العربي.

د. حسن خليل