الخميس، آذار/مارس 28، 2024

فلسطين... هي الاستثناء الحقيقي

  د. حسن خليل
رأي
الاستثناء في هذا العالم اليوم هو فلسطين؛ كونها نقيضة الاحتلال والهيمنة والتبعية، وهي القضية الأساس التي تُقاس عليها المعايير ووفق وجهتها يتكوّن الاتجاه الصحيح

"بيتي، بيت صلاة يُدعى، وقد جعلتموه مغارة للصوص"، هكذا خاطب السيد المسيح تجّار الهيكل ومرابيه وهو يطردهم منه؛ هم، كيان الفصل العنصري والإرهاب والجرائم الموصوفة... أحفاد لصوص الهيكل وصبيان قاتلي الهنود الحمر وشعوب العالم وفقرائه... تسللوا تحت جنح ظلام إمبرياليات صاعدة على دماء الفقراء في أربع جهات استعمارهم وحروبهم. تسللوا، وفي مخزون إرثهم مجازر وتصفيات عرقية وعبودية وفصل عنصري. تتلمذوا على يد أشقر يكره اللون الأسود وكذلك الأحمر، فحاول إلغائهما واقتلاعهما من أرضه، لتتحول إلى مستعمرات لقوافل التفتيش عن الرق والذهب و"الألدورادو"، بلاد الكنوز كما تزعم روايتهم المتوارثة، والتي تربوا عليها. هو ذلك العقل الصلف والتصرف الجلف الذي امتهنه تجار الحروب والقتل وهم يجوبون الكرة الأرضية بخطوط طولها وعرضها. وها نحن اليوم نعيش تلك الجلجلة التي أقامت بيننا، بنسختها الحديثة، قرناً من زمن ما غادرت خلاله الحروب فضاءاتنا المفتوحة على كل أنواع الطائرات. هو ذلك الوافد المدجج بالأسلحة والمخدّر بحب القتل، كيف لا وهي صفة متأصلة في جيناته التي توارثها جيلاً إثر جيل. لقد استوطن ذلك المشروع ونما بين تلالنا، غذّته روافد متنوعة ومتعددة، من الأجداد إلى الآباء وأولاد العم المزعومين، فنكّل وهجّر، وها هي فلسطين كادت تتلاشى حدّ الحلم. مشهدية التاريخ تتكرر، ومسارح ويلاتها تتحول إلى شواهد مترسخة في العقل والوجدان وكذلك في الواقع؛ لا مناص من ذلك، فما دوّنه التاريخ والحاضر لن تمحوه رياح الصحارى وغبارها، وعلى ذلك الأثر المتتابع كانت تُكتب المشهديات:

المشهدية الأولى: ثالوث المقاومة، ذلك الثالوث الذي ارتكزت على أذرعه المواجهة الأخيرة في فلسطين: هو الشعب الفلسطيني بمقاومته الوطنية وبفصائلها جمعياً والشتات الممتد على أربع جهات الأرض، والقدس ومسجدها الأقصى وجرّاحها، ومناطق الـ48، أي بقية فلسطين التاريخية. لقد أُعيد للقضية الفلسطينية وهجها الحقيقي، ونُفضت عنها سنوات الاتفاقات التي أضعفتها حدّ النسيان. لقد أُعيد طرح القضية الفلسطينية بوجهيها الحقيقيين، قضية حقوق لا يمكن التنازل عنها، وقضية مواجهة سياسية مع ذلك المشروع الاستعماري الغربي المدعوم بأعتى إمبرياليات التاريخ. لقد اصطّف العالم بأكثريته إلى جانب الحق والمقاومة وانتصر لهما.

المشهدية الثانية: الشعوب، العربية منها وبقية العالم، والتي أثبتت كعادتها بأنها تقف في الجهة الصحيحة ولا تفرط أبداً بالقضايا المحقة. لقد أكدت تلك الشعوب غربتها عن أنظمتها وسياساتها، فسكنت الشوارع كرمى لعيون فلسطين. لم تقف حدود أو نظم أمام ذلك المدّ الواضح في مواقفه، والصريح في التعبير عن انحيازه التام إلى جانب أصحاب الكوفية التي زينت رؤوس كل أحرار العالم، من دون أي لبس أو التباس. لقد بينت قضية فلسطين وكعادتها، حدود الفصل بين قضايا الحق وقضايا العدوان، وأعادت فرز تينك الضفتين بعدما كادت تلتبس معالمهما. لقد خطفتها أوسلو إلى زواريب التفريط والتفاوض وأزقّة المصالح، فضاعت الهوية. لقد حاول قطار التطبيع، الذي يجوب بلاد العرب وأوطانهم، أن يمحو أثرها عن رماله المتحركة دوماً مع الريح، فأغشت بصيرته وتاه بين اتفاقات الذل والتسكع على أبواب أصحاب السطوة. لقد أعادت تلك "الفلسطين" ميزان العالم ليميل نحو كفتها، فأعادت صوغ الموقف في ذلك الاتجاه. لقد أعطت لشعوب العالم المضطهدة نفحة كرامة كادت تضيع بين موبقات الرأسمالية وصلف نظمها القاتلة وديمقراطياتها القاتلة.

المشهدية الثالثة: صفقة القرن، هي ذلك المولود الناتج من تطابق مصالح بين إمبريالية متوحشة ونظم هجينة – هي الأصل وهم الأدوات – فأتى مشوهاً غير قابل للحياة، ومع ذلك، جاء من يريد فرضه، وبالقوة. اللعبة هنا بدت واضحة، وكذلك اللاعبون؛ مساران تشكّلا، ولم يلتقيا: هما، أميركا والكيان الصهيوني إضافة إلى الرجعيات العربية بكل ألوانها، وأموال النفط وريوعه والتقسيم... ونحن، نحن المقاومة الوطنية الفلسطينية والعربية، التي قالت لا، منذ ما يقارب القرن من الزمن ولمّا تزل، منها كان الرد وعليها اليوم استكماله. الردّ الذي سيؤكد بأنه، ومهما كانت اللعبة كبيرة وكذلك اللاعبون اللاعبين، فإن إرادة المقاومة هي الأبقى والأجدى والأنفع.

المشهدية الرابعة: هنا القدس... من بيروت، بهذه الجملة قُدّمت كلمة فلسطين، خلال مسيرة عيد العمال العالمي ودعماً للقدس ومقاومتها، التي أقيمت في بيروت. القدس تستحقها كما بيروت؛ فلا يضير ذلك صاحبة نداء 16 أيلول إلى السلاح تنظيماً للمقاومة الوطنية كرد طبيعي على احتلال العاصمة العربية الثانية. والقدس تستحقها، فهي العاصمة الأولى التي اغتصبها الصهاينة، فيما كانت جيوش الأنظمة العربية تحيط بالحدود التاريخية لفلسطين، تستعرض النياشين وتخوض الحروب الوهمية على الورق. ولا يضير الاثنتان معاً لو أُضيف إليهما يوم التاسع من أيار، عيد النصر على الفاشية وهزيمتها، والخامس والعشرون من أيار عيد التحرير في لبنان... ليتكامل كل ذلك، في مشهدية واضحة، الرؤية فيها جلية وبائنة.

وعليه يستوي المشهد وبكل وضوح: ضفتان متقابلتان لا تلتقيان، الخيار في متناول العين والفهم والسلوك. مئة عام مضت، فيها من النكبات الكثير ومن الانتصارات أيضاً. سطوع شمس تلك القضايا تعطيها بريقاً واضحاً ومفهوماً. طريق التحرير لا تمر إلّا عبر خيار المقاومة، وطريق التحرر من التبعية لا تمر إلاّ من خلال كسر التبعية والهيمنة. هي معادلة واضحة جداً، سهلة الفهم لمن استطاع إليها سبيلاً. إضاعة الفهم بمواقف هجينة، تُستنسخ من مصادر متعددة ستوقع حتماً في "الالتباس المعطّل". نعيش اليوم في طور الإمبريالية، طور الاحتكار وانقسام العالم إلى مراكز وأطراف تابعة لها، العدوان كما الاحتلال كما الهيمنة هي الهدف الذي تتبعه تلك العقلية المتعالية المجرمة المتحكمة في العالم، فلماذا التفتيش في مكان آخر؟ هي حالة سائدة منذ انهيارات التسعينيات من القرن الماضي والتي لم تستو بعد على صراط قويم؛ الارتباك والتردد وضياع البوصلة كانت من السمات التي أربكت المواجهة مع ذلك المتغطرس، الذي اعتقد بانتصاره النهائي ونظّر لنهاية التاريخ. ألم تحن بعد عودة العقل إلى احتلال موقع أخذ القرار؟

يقول الفيلسوف الوجودي الدنماركي كيركغارد، "إذا أردنا أن ندرس الحالة العامة بشكل صحيح، يكفي أن نبحث عن استثناء حقيقي، إنه يسلّط على كل شيء ضوءاً أشدّ سطوعاً من العام". الاستثناء في هذا العالم اليوم هو فلسطين؛ كونها نقيضة الاحتلال والهيمنة والتبعية، وهي القضية الأساس التي تُقاس عليها المعايير ووفق وجهتها يتكوّن الاتجاه الصحيح. هي قبلة أحرار العالم والموقع المتقدم لكسر الاحتلال وهيمنة دول المركز الرأسمالي، وعلى أساسها ستُخاض المعركة؛ هي ليس قضية عدالة فقط، بل هي أم القضايا التي ستحدد مصير تلك العربدة الأميركية في المنطقة وفي العالم. ومتى وعينا فعلاً شكل الاستثناء ومنطلقاته، سنعي مباشرة طبيعة الحالة العامة، وسندرك حينها الضفة التي يجب أن نقف عليها ومع من.