الجمعة، نيسان/أبريل 19، 2024

صراع بالوكالة...

  د. حسن خليل
رأي
كَثُرت الصراعات وتشعبت، امتدت على مساحات واسعة من العالم، وطالت أكثر من قضية وجالت على عدة مواضيع. اللاعبون كثر كما الساحات، القضايا مترابطة كما المتصارعين. لم تبق زاوية من العالم إلّا وزارتها تلك العقلية المهجوسة بالقتل لأجل السيطرة، والنتيجة كانت عالماً مسكوناً بذهنية، تحاول تأبيد سيطرتها ولو كره الكارهون؛ جنّدت لمبتغاها هذا الجيوش وترسانات الأسلحة والعقوبات والحصار والبلطجة والجوع والفقر وتدمير البيئة... رعت الإرهاب وربته في جحرها، استثمرت في لقمة العيش فجوّعت ونكّلت... لم تُبق شائنة إلّا واقترفتها، وعلى ذلك السراط غير القويم، لم تزل مسيرة هيمنتها تحاول التمدد، مرتكزة على إرث دموي وحاضر يشبهه وحقد دفين وعسس ليل منتشرين على أربع جهات الأرض، يعملون غب الطلب ولصاحبهم القابع بين أجندات السحرة والمشعوذين، أرباب رأس المال الفالت وأصحابه والمسبحين بحمده.

أعظم الربح أو أقل الخسارة

هو منطق التاجر الذي يريد الاستحواذ على كل شيء، لا يقبل المشاركة أو التشارك؛ همّه الربح الدائم وعلى ذلك الهمّ يقيس الأمور ويقاربها. هو منطقه المرتكز على تأمين مصالحه، بغض النظر عن مصالح الآخرين، وأي مردود يجب أن يُصرف في صندوقه. في السياسية، مراكمة القضايا وخيوط التحكم بها وارتكازاتها لا تبتعد كثيراً عن ذلك المنطق الآنف الذكر، فتحديد الأهداف ثم المنطلقات وبعدها المسار سيكونون ضروريين كي تكتمل العملية. فمن يمتهن اللعب بالسياسية أو الاستثمار فيها لا يمكنه إلّا أن يضع منطق التاجر أمامه ويعمل مثله. وهنا للإشارة فقط، السياسة أو التجارة ليسا عملاً مكروهاً، بل المكروه فيهما هو كيفية الاستخدام. وعلى تلك الوجهة كانت الأمور تسير وتتطور، منذ أن بدأت عملية المقايضة بين الحاجة والمتوافر منها، وبخلفية منطق الذي يمتلك مع الذي لا يمتلك؛ الملكية هي باب من أبواب المقايضة أو التجارة أو التبادل. في كل الأحوال، الصراع التاريخي المتوارث كان دوماً لا يخرج عن منطق العلاقة البينية بين المالك وصاحب الحاجة، والذي تطور لاحقاً ليصبح بين مصالح المسيطر أو المهمين والآخرين، سواء أكانوا شعوباً أم دولاً أم أشخاصاً. لم تلتبس تلك المعادلة، بل كانت شديدة الوضوح بائنة. لقد انتظم منطق العلاقة تلك على مفهوم الحاجة، والتي هي باتجاهات مختلفة؛ فحاجة الفقير إلى من يخفف عنه صعوبة الحياة أو ظلمها تختلف جوهرياً عن حاجة الغني إلى مراكمة ثرواته وتكديسها. كما مصلحة أصحاب الهيمنة والسيطرة تتناقض جوهرياً مع من سيقع عليهم فعل الفعل.

إشكالية تاريخية

هي تلك العلاقة التي رسمت حدّي المواجهة التاريخية بين كل تلك المتناقضات الموجودة في العالم ورسمت مسارات حركاتها واتجاهاته. لقد امتلكت البشرية إرثاً من صراع بيني بين المتناقضات القائمة، وعاشت تبدلات كانت حاسمة في مسار تطورها. لقد ضاعت القيم واختلت في منازلة غير متكافئة بين "الحريص" وبين "الفالت". هنا المقاربة تصبح أكثر وضوحاً متى بيّنا ماهية أطرافها. لم يخرج الصراع الأبدي الدائر بين ذينك المنطقين المتلازمين منذ أن وجدت البشرية على سطح المعمورة. صراع أزلي، تبدلت قواه لكن المضمون واحد؛ السيطرة والهيمنة والاستلاب. فهذا الانقسام جعل الحدود الفاصلة بين البرزخين غير واضحة تماماً لارتباط كل منهما بعقلية مختلفة حدّ التناقض؛ لا يمكن أن تقاتل منطق الهيمنة بمثله، كما لا يمكن منع السيطرة بمثل سلوكها. المنازلة هنا ليست أخلاقية، أو بين الشر والخير، بل هي مبدئية، أي بين الشر وبين من يريد منعه والتصدي له، وبذلك سيكون الفرق واضح. لا وسطية في مواجهة بينية بين الاحتلال وسبل إزالته، أو بين الرأسمال والطبقة العاملة، إذ لا قواسم مشتركة قائمة، كما لا مصالح متطابقة. هنا الموقف وجذريته سيكونان الفيصل لكيفية اختيار طبيعة المواجهة وماهيتها. لن تقوم ثورة بنتيجة فورة غضب عند هذا الشخص أو ذاك كما لن يكون هناك تحرر بنتيجة كثرة الدعاء على المحتل بكسر رقبته. الأمور على هذه السجية لا تستوي ولا يمكنها، في الوقت نفسه، أن تتحول إلى فعل يومي يؤدي إلى نتائج ملموسة.

ضفتان متقابلتان

عقلية التاجر أو المرابي أو السياسي تشترك في خلفياتها ومرادها، ولكل واحدة منها ميولها وأهوائها، والتي تستقيها من العمل اليومي لصاحبها؛ فالممارسة المرتكزة على تبيان الأهداف والوسائل واستكمالاً النتائج، هي من سيوضّح حدود الفصل التي يجب أن تكون بائنة، لأن حالة انتفائها ستؤدي، من دون شك، إلى بروز حيز كبير يغطي معظم المساحة السياسية، يتمتع بامتداد وبلون يميل كثيراً صوب الرمادي "المحيّر"، يميل تارة إلى الأبيض وطوراً إلى الأسود، أي يأخذ ما يمكن أن نسميه منطقة "اللا- توازن أو انعدام الوزن السياسي"، في المحصلة سيُحدث ارتياباً مشروعاً. هذه التموضع يُمثل أساس الخطر على الحياة السياسية وذلك لإضفائه نوعاً من سياسة غير مرتكزة على قاعدة وأساس واضحين، وأيضاً تشويهاً للهوية السياسية التي تنتفي حينذاك حاجة وجودها لعدم الضرورة. إن الإكثار من المفاهيم التي تأخذ بالثنائية، الملتبسة شكلاً ومضموناً، في الخطاب السياسي، ما هو إلّا دليل على "النية الاستغلالية"، من خلال إيجاد الذرائع والسلوكيات المتناقضة لوضع الرأي العام أمام خيارات محددة باثنين: إمّا "معي وإمّا ضدي" أو "من معنا ومن مع الآخرين"، من دون تحديد مواصفات أو إظهارها ماهية كل طرف وأهدافه. وبذلك تُختَصر المسافات وتُحدّ، وفي أكثر الأحيان، بحدّ ضبابي أو رمادي أو "مشتبه فيه بين طرفين"، هما في كثير من الأحيان من الطبيعة نفسها، أو أقله متفقان، بحكم النتيجة المترتبة على الفعل. على هذا الأساس، تصبح مقاربة القضايا من زاوية الفكرة مقابل الأخرى، والموقف مقابل الموقف فاتحةً لخيارات في اتجاهات متنوعة، ومعها نستطيع تلمس الخيط الأبيض من الأسود في الممارسة السياسية والمنطلقات الفكرية.

تحت ضوء الشمس

هو إذن، مشروع بمشاريع متعددة، الرأس واحد كما الأهداف، لكن الأدوات متنوعة. ليس هناك خطاً رمادياً يمكن الركون إليه لجواب صريح؛ إلتقاء اللونين الأسود والأبيض ومقاربة نتائجه، ليست دوماً رماديةً، بل أحياناً يجب أن تكون، إمّا أسود وإمّا أبيض، طبقاً لزاوية النظر إليه ووضوح الرؤية. الإمبريالية هي آفة تقوم على سلوك الهيمنة والاستبداد والقتل والقوة والاحتلال، هي تلك المواجهة التاريخية المتأصلة في صراع أبدي بين المسحوقين وساحقيهم وبين الحلم ومانعيه. المبدئية هي سلاح ذو حدّين، الموقف والتموضع. الفرق هنا واضح، لا لبس فيه ولا التباس، والعمل تحت الضوء أجدى ومنظوره أوضح. هي تلك المواجهة المفتوحة بين الظالم والمظلوم أو بين رأسمالية مستبدة أو تبعية هجينة وبين المتضررين منها، وهنا الانحياز أيضاً واضح. هي ليست تلك المنزلة الملتبسة بين الخدّ والعين، بل هي إشهار جلي على أي ضفة يجب الوقوف وإلى جانب من. نصف الموقف انهزام، والتباسه هو بداية الانزياح إلى التموضع الخاطئ. كثرة التحليل تضيّع البوصلة وإغراق الموقف بكم من التناقضات سيصب في مجرى مختلف، ربما يغور في الرمال ويضيع أو يُصرف في صندوق آخر. وعليه، متى أردت أن تكون ثورياً فما عليك إلّا أن تمارس ثوريتك تلك بكل مندرجاتها.

ربما هنا مكمن التقاطع بين كل ما ذُكر سابقاً؛ اختيار الجهة أو الضفة الواجب الوقوف عليها لا يجب أن تكون موضوعاً إشكالياً، فمتى حدّدت تناقضك الأساسي في الفكر والممارسة العملية الواجب فعلها يصبح تموضعك السياسي تلقائياً. فكما أسلفنا، آفة البشرية القاتلة اليوم هي تلك العقلية الإمبريالية المتعالية، التي لا ترَ إلّا مصالحها وتضعها نصب أعينها، ولا تمارس إلّا البلطجة، إذ لا تتورع عن فعل أي شيء متى أحست بدنو الخطر منها، ومهما كان بسيطاً، لتستنفر كل قواها للدفاع عن مصالح أربابها، وما القتل والحصار والاحتلال والتجويع... إلّا بعضاً من تلك الوسائل التي تمتهنها. هذا هو النقيض البائن، والذي يُقرِن قوله بالفعل؛ قسّم العالم على شِعَب ودساكر ومنازل، وما منزلة أصحاب الرأسمال وجشعهم، بنظره، إلّا الأهم...أم البقية الباقية فلا يريدونها إلّا في خدمة مصالحهم، وهنا الخيار واضح أيضاً. يستخدمون الكل ضد الكل، ويضعون فقراء العالم البعض في وجه البعض الآخر، وهنا لا مجال للتفكير في أي موضع ستكون... وإذا حَكًم رعيان الطوائف واستبدوا فلا تضيع الوقت في التفتيش عن الانحياز لأي جهة، ومتى استبد سلطان رأسمال وتجبّر، فلا مجال للتفكير وتكبد عناء إضاعة الوقت. ومتى تاهت عليك الاتجاهات والتبست، صوّب نظرك نحو الشمس وتذكّر بأن ذلك الاتجاه هو الموضع الصحيح، وانطلق منه لتحديد مجال الرؤية الضرورية لاستبيان الأمور. ارتكز على القياس حين يغشى عليك الفهم، ففي رصيدك ورصيد نضالك التاريخي، محطات كنت فيها طليعياً، ربما بذلك التماثل تنجو من الخطأ، ولا تقع فيه، عندها ستكون موطئ قدمك صلبة وراسخة... هل هناك أوضح من هذا الكلام؟

كلمة أخيرة

إن الوجوه الصفراء لا يمكن إعادة تلميعها مهما استخدمت أفضل المساحيق وأدوات التجميل؛ التابع يبقى تابعاً كما العميل والسارق والمرتكب... لا مؤتمرات حول الرؤى ستجعل من أصحاب الوجوه البلاستيكية الكالحة التي تنضح بحب الاستزلام لصاحب اللكنة الملدوغة، أبطال ساحات ومواقف وبناة مستقبل؛ تقديم أوراق الاعتماد تفوح في أرجاء المكان مع خطابات تبييض الوجوه التي تملئ الفضاء. الشخصيات المحنّطة القادمة من متاحف الشمع ليست إلّا تلك العدة التالفة، ومهما استخدمت من إضاءة أو زوايا تصوير أو ديكور، ستبقى الصورة جلية بائنة تحكي عن أصحابها ألف حكاية وعن تبديلهم لمواقفهم أكثر من تبديلهم لثيابهم... الأموال تُنفق من كل حدب وصوب وتُصرف بالهبل، ولن نسأل من أين لكم هذا لأن المصدر معروف، فيما أكثرية الشعب اللبناني ينتظر في الطوابير تحت أشعة الشمس الحارقة؛ هنا الفرق واضح بين المشهدين... فلا تدّعوا ما ليس لكم، انتم من أدوات ذلك المشروع المتناسل من بريمر حتى شيّا. نور الشمس لا يُحجب بغربال، كما الأصوات العالية ليست دليل قوة موقف...