الخميس، آذار/مارس 28، 2024

إنهم يدرون ماذا يفعلون

  د. حسن خليل
رأي
  هي سردية متوارثة؛ كتب التاريخ، الأساطير والحكايات الموغلة في غابر الزمن، كانت المرتكز التي بنيت عليها. لم تخلو حادثة، مستعادة من ماض ملتبس بطبيعته ورواته، إلّا وتقاطعت عليها مصطلحات مثل: الفرادة وتدبير الأمور والغريب والنحن والهُمْ والعيش المشترك والشراكة... وإذا دققنا جيداً في تلك المصطلحات أو معانيها فنجدها متواكبة دوماً مع جولات من التقتيل والتهجير والاستباحة والتدخل... هو ذلك التاريخ المؤسِس لمراحل قيام الكيان اللبناني، أو لنقل لمن استوطن على جزء من الساحل الشرقي للبحر المتوسط. وعلى ذلك التمرحل في ترتيب المحطات التي شهدت تبدلات، إن في طبيعة الكيان القائم على تلك الأرض، أو في نوعية مكوناته واتجاهاته من حيث كانت تأتي الرياح التي تعبث في الجغرافيا لتعيد صوغها على مقاسات مختلفة. لقد كان البحر وجهته غرباً، والبر شرقاً. هو، تناقض في الاتجاهات، وهذا بديهي في علم الجغرافيا، إلّا أنه تحول، وبقدرة قادر، إلى خيارات سياسية متناقضة، مرتبطة بالانتماء أو التوجه، والتي أحياناً، كانت تُعطى بعداً "حضارياً"، يُغلّف النوايا الحقيقية لمن كانوا ينادون به وأهدافهم. لم تتغير تلك السردية أو تتبدل، بل ازدادت تعمّقاً وأصبحت منطلقاً لخيارات سياسية/طائفية ومذهبية، تطفو بوضوح عند كل منعطف، وتُعلن عن نفسها بفجاجة، يُستحضر معها أبشع التاريخ وأسوء الخطابات السياسية، وتبرز من خلالها طبيعة المكونات والمكنونات وامتداداتها الداخلية والخارجية. هي مصيبة تلك الجغرافية ومن عليها، والتي، بدل أن تتطور وتأخذ منحاً تصاعدياً منفتحاً على التلاقي والتطور، كانت تجنح نحو مزيد من التقوقع والأنوية المفرطة في انعزاليتها، وقد بدا ذلك وبوضوح مع انتهاء الحرب الأهلية ولعنة المسارات التي تلتها، والتي يمكن ملاحظتها من خلال ظواهر تأسيسية للخطاب السياسي الذي ساد، والتي تفننت قوى السلطة في استخدامها صعوداً وهبوطاً في لعبة مكشوفة؛ تدفع الوضع نحو الانفجار ثم تسوق حلولاً فيما بينها لتعيد صوغ العلاقة بين مكوناته وفق حسبة جديد وحسابات مستجدة مع تطورات الإقليم المحيط أو الأبعد. 

لقط طفت ظاهرة الأنوية على سطح لغة التخاطب بين الأفرقاء، المتكافلين حسب قولهم، واحتلت الحيز الأكبر في لغة التخاطب السياسي؛ وهي الأنا المرتبطة بالطائفة والمذهب والمنطقة. وهي هنا، وبالمعنى السياسي، تقديم تلك الاعتبارات على الانتماء الوطني الجامع، الذي سقط صريعاً بأيادي الداخل والخارج، ليصبح الإعلان عن الهوية السياسية مرتكزاً على الفئوية الضيقة، التي تشكل المجال الحيوي لمنظومة تحكم باسم المذاهب وليس باسم مصالح البلد أو الدولة. إن تقدم تلك الذهنية إلى مسرح الأحداث في لبنان ما كانت لتكون مؤثرة لو لم ترتبط مباشرة بسردية ملتبسة، متوارثة ومهجّنة بمصالح أطراف وقوى، داخلية كانت أم خارجية، تعزف على وتر الداخل بريشة الخارج. هو ذلك التلاقي "المُحدّث" مع منطق النظام الذي استحكم بالعالم في تسعينيات القرن الماضي والذي حكم باسم المصالح على حساب القضايا.

وربطاً بفكرة الأنوية، والتي أعطت للفرد تلك الحيثية، والتي مكّنته من حجز مكانه بالتركيبة القائمة في البلد بالتفرد ضمن تلك الحدود المرسومة والتقوقع فيها، والتي ولّدت عنده الشعور بالخوف الذي يلازم كل أقلية،  ويجعلها في خوف دائم، من التلاشي أو الانحلال أو فقدان الوظيفة أو الدور. إنَّ الخوف، وبكل معانيه، يجعل من الإنسان كائناً غير قادر على التحكم بممارساته ولا حتى بطريقة تفكيره، ليصبح مشلولاً، فاقداً للرؤية وحتى البصيرة، مضطرباً غير قادر على اتخاذ الموقف الصحيح، ومستعداً للقبول بأي شيء إذا اقتنع أو أُقنع بأنه لمصلحته الفردية أو الجماعية. فليس من العقلانية بمكان أن يعيش المواطن دوماً في حالة تلازمه مع كل حركة أو عمل يقوم به، فتسيطر عليه فكرة عدم الاستقرار وعدم الوضوح. ما نشهده اليوم من حل للنزاعات والصراعات يقوم أو يُدار على أساس طائفي وعنصري ومناطقي، وفي استخدام وقح للمؤسسات العامة وتحويلها إلى محميات في خدمة التسلط والمحاصّة وقوى الأمر الواقع مع تبنٍ واضحٍ لمنطقَي: "التبرير والقبول"، أي تبرير الوقائع والأهداف والممارسات بقبول النتائج المتأتية منها والقبول بها تحت مسميات محددة وذرائع مفتعلة.

هذا الواقع، المرتبط من جهة بقلق الوجود المرافق لكل أقلية، وضرورات التفتيش عن الراعي أو الحامي الذي يظلل بحمايته تلك الذهنية الأقلوية من جهة أخرى، ولّد آفة الدونية عند أهل السلطة بمختلف مستوياتها في مقاربتهم للقضايا السياسية وللسلوك المرافق لها، فنرى الخطاب السياسي لأهل النظام يمتاز بدونية مفرطة نحو الخارج، حتى ولو على حساب الكرامات، الشخصية والوطنية. إن ما يشعر به المواطن وهو يستمع إلى تلك التصريحات التي تستجدي النظرة أو البسمة، أو اللقاء، وبين الردود عليها من خارج استبد وهيمن، ليتضح حجم الانحلال الأخلاقي عند أكثرية المنظومة الحاكمة في لبنان، بقواها وأشخاصها. هو سيرك متوارث ومستمر حتى أصبحت تلك المعضلة التأسيسية في العقل السياسي المتوارث في لبنان، المبني على الفراغ والاستقواء بالآخر، والمحمي بأسلاك الطوائف المكهربة والموصولة على خطوط التوتر الخارجي، مدعاة تزلف وتملّق واستخفاف حتى ولو أطاح بذلك كرامته الوطنية وكرامة وطنه وشعبه؛ يحكم بأمر صاحب الأمر ويضرب بسيفه ولا يتردد بذكر احترام السيادة والاستقلال عند أي منعطف. إن الحقد المكبوت في العقول شكّل الخلفية غير المرئية لسلوك أصحاب الشأن المتحكمين بالحياة العامة، السياسية والاقتصادية والمالية. مصالحهم هي المحرك لعملهم، والتنكر للواقع الاجتماعي المعيش هو السلوك المتبع. يرتكبون ويحمّلون مسؤولية الارتكاب لمن يقع عليهم فعل الفعل. هو ذلك الشعور بالاستقواء على من لا يمتلكون، مرده إلى محاولتهم التعويض عن دونية موصوفة اتجاه أولياء نعمهم، دولاً كانوا أم اشخاص. وعليه، تراهم لا يترددون في سحق الفقير والإجهاز عليه.

 أفعالهم تعكس مكنونات مرضية متشكّلة من تبعية عمياء لمن خلع عليهم "الخلعة" وجعلهم حكّام وولاة ومتقدمين، هو ذلك المسار المتتالي والغائر في غابر الزمان لا يتغير ولن يتغير. هم يدرون ما يفعلون؛ افقروا ونكّلوا وسطوا ونهبوا... قتلوا وشردوا... باعوا وتاجروا... وعلى ذلك متابعين. لم يكتفوا بتجويع الشعب بل صادروا لقمة عيشه وجعلوه أسير الإعانة والإعاشة والمَكرَمة. لقد قننوا الهواء والدواء لكي تستفيد زبانية السلطة، أتباعهم وشركائهم وشركاتهم من الاحتكار والربح السريع. لقد أفلسوا المؤسسات العامة، الإنمائية والاقتصادية والتربوية والصحية... واستثمروا في لقمة العيش والصحة والتعليم. لقد انصاعوا لولاة أمرهم من صناديق دولية معروفة المنشأ والأهداف وجعلوها الحاكم بأمرها، يضعون البلد رهن شروطها غير آبهين على أي مستقر ستكون الأحوال.

هم يدرون ما يفعلون؛ التبعية لمن ولّاهم ورَزَقهم وموّلهم وحماهم وجعلهم حكّام وسلاطين. له أمر الدنيا وربما الآخرة، له الطاعة والولاء ولهم المذلّة وهم صاغرين عاجزين. هو ذلك النظام السياسي المسخ الذي ركّب على منظومة مرتهنة وأمراء حرب ورجال دين ومافيات... تقتات من الفتات المتساقط من طاولات المقامرة السياسية المتعددة الأمكنة والعواصم والقارات. يفرحون بنظرة أو كلمة إطراء ويبتهجون بأن موظفاً من سفارة استقبلهم. يلهجون بالثناء صبحاً وعشيا إذا جاءتهم إشادة من سفيرة أو موظف في إدارة خارجية، وإذا كان أميركياً تقام له الاحتفالات وبيوت الزجل في مقدمات الأخبار... هو ذلك الجنون المتمادى فيه حدّ الاطاحة بالكرامة وهم غير مبالين. ألا تدرون بأن الإشادة بأي كان من "إمبراطورية الشر"، بوزرائها وسفرائها هي بحد ذاتها إدانة؛ فمن قتل وحاصر واحتل ودمر جوّع... ليس هو الجهة الصالحة التي توزع الشهادات والإشادات؟

  يعملون تحت جنح الظلام وفي العلنّ؛ "يُفسْدّون" على بعضهم البعض، ويقدمون التقارير والنميمة والدسيسة والخبرية، يبيضون الوجوه والطناجر، همهم الأول والأخير رضى الوصي والولي وصاحب النعمة حتى ولو أذلهم وصغرهم... هم يدرون ما يفعلون... لكن نحن ما عسانا فاعلين؟

 

خاص لموقع الحزب الشيوعي اللبناني