الخميس، آذار/مارس 28، 2024

النظام اللبناني: «مالتوسية» تهجيريّة

لبنان
اشتهر الاقتصادي الإنكليزي «توماس مالتوس» بنظريته حول العلاقة بين النمو الديموغرافي والنمو الاقتصادي، وخرج باستنتاجات حول ضرورة الحدّ من النمو السكاني وازدياد أعداد البشر من أجل ضمان نمو حصّة الفرد من الناتج المحلّي وتحسّن وضعه المعيشي إجمالاً.

هذه النظرية التي وصِمَت بالعنصرية، تجد صداها في سياسات النظام اللبناني التي تشجّع على الهجرة، أو التهجير، كأداة مزدوجة لزيادة تحويلات الشباب المهاجرين من جهة، وخفض عدد اللبنانيين المقيمين من جهة أخرى، بما يضمن نمو حصّة الفرد المقيم من الناتج، فيصبح المهاجر أداة أساسية لتحسين مستوى حياة المقيم. «مالتوسية تهجيرية» بامتياز يعتمدها هذا النظام كي يضمن ديمومته واستمراريته، لكنّها مالتوسية يمدحها إعلام النظام على الرغم من أنّها تشكّل رديفاً للفوقية الاجتماعية.
لا يعني ذلك أن نظرية مالتوس البائدة هي مرشد النظام اللبناني أو قاعدته النظرية، فالاستناد إلى هذه النظرية هو لتبيان أن السياسات في لبنان ساهمت في خلق ظروف شبيهة بما لاحظه رجل الدين العامل في الاقتصاد وبنى عليها نظريته في «الفاشية الاجتماعية». رأى مالتوس أن تقدّم الوضع الاقتصادي العام كان يرفع من مستوى عيش الفرد، لكن تحسّن وضعه الاجتماعي يشجّعه على الإكثار من الأولاد، فيزداد عدد السكّان ما يؤدّي إلى انخفاض حصّة الفرد من الناتج، في دورة اقتصادية اعتبرها دورية، واعتبر أن الحلّ الأساسي يكمن في كبح الزيادة السكّانية لكسر هذه الحلقة المُفرغة. وذهب الرجل أبعد من ذلك، إذ وضع نماذج رياضية لتفسير نظريته هذه، إذ افترض أن الازدياد السكّاني يحصل وفق تسلسل هندسي (Geometric Progression)، بينما النمو الاقتصادي يحصل وفق وتيرة التسلسل الحسابي (Arithmetic Progression)، وبالتالي ينمو السكّان أسرع من نمو الاقتصاد، ما من شأنه دفع مستوى المعيشة في لحظة معيّنة إلى الانهيار، إلّا إذا حصل تدخّل ما للحدّ من عدد السكّان. سكّان أقل يعني مستوى حياة أفضل في عالم محدود الموارد كما تخيّله. ولتخفيض عدد السكّان توجد طريقتان: موت أعداد كبيرة منهم أو منع الولادات. الموت تسبّبه المجاعة والأمراض والحروب التي شجّعها مالتوس، أما منع الولادات فرآه يتمّ من خلال تأخير الزواج أو الامتناع عن الجنس، وهو ما روّج له أيضاً من خلال الأفكار الدينية حول الطهارة والعفّة. إذاً، الحل لمتباينة (Controversy) نمو السكّان بوتيرة أسرع وأعلى من نمو الاقتصاد: فليمت الفقراء إن لم يستطيعوا التوقّف طوعياً عن الجنس.
مثّلت «المالتوسية» أبرز النظريات الفاشية الاجتماعية، قبل مئتي عام من بروز الأنظمة النازية والفاشية في أوروبا، ورأت في حينه أن حلّ الأزمات المُرتبطة بالنظام لا تكون إلّا بالقضاء على «فائض» السكّان، بوصفه من أهمّ عوامل الأزمة الاقتصادية. لا تأخذ هذه النظرية بالاعتبار التطوّر العلمي والتكنولوجي وتطوّر القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، كعوامل مُحدّدة للنمو الاقتصادي والمجتمعي. تعرّضت نظرية مالتوس لنقد شديد، جاء أبرزه من كارل ماركس الذي رأى أن المشكلة الأساسية المُرتبطة بمحدودية الإنتاجية تكمن في طبيعة النظام الرأسمالي نفسه، وليست مسألة مرتبطة بالطبيعة البشرية، أي إنها ليست قدراً. كما اعتبر الفقر نتاجاً سيّئاً لسوء توزيع الثروة اجتماعياً في هذا النظام وليس نتيجة لتكاثر البشر. وعلى العكس من ذلك، في ظلّ علاقات إنتاج خالية من الاستغلال، وفي ظلّ انفتاح أفق التطوّر العلمي والتكنولوجي، ترتفع معدّلات الإنتاجية كاسرة معادلات مالتوس الرياضية، وتؤدّي إلى رفع مستوى المعيشة عموماً على الرغم من الازدياد المطرد في أعداد الناس.
وخلال المئتي عام التي تلت مالتوس ازداد عدد سكّان الأرض أضعافاً عدّة، لكن مستوى المعيشة تحسّن مرّات عدّة أيضاً، ما ينسف هذه النظرية تماماً.
لكن، لماذا نذهب بعيداً في شرح نظرية ترمي إلى التخلّص من الفائض البشري الموجود على قيد الحياة؟ لنتأمّل قليلاً بما يقوله سياسيونا في لبنان عن الهجرة منذ عقود، وكيف بنوا نظريات «اللبناني المتفوّق» القادر على النجاح أينما حلّ خارج بلده، وكيف شجّعوا أهلنا وإخوتنا ورفاقنا على الهجرة في إطار سياسات التضليل الاجتماعي التي اعتمدوها في التربية والتعليم والإعلام والسياسة اليومية لتثبيت صورة «الفينيقي التاجر» الذي يغزو قارات العالم البعيدة ليرسل إلى أهله المال والانتصارات الوهمية. أليست هذه «الأساطير» نوعاً من نظريات التخلّص من السكّان المالتوسية؟
ينمو الاقتصاد اللبناني ببطء شديد، بما لا يكفي لزيادة نصيب الفرد منه، ناهيك عن سوء توزّع الدخل والثروة فيه. جرى كسر هذه الحلقة تاريخياً على قاعدة: فليختفِ هؤلاء الفائضون عن حاجة اقتصاد البلاد إلى بلاد الله الواسعة، بدلاً من إشغال النظام بتأمين فرص عملهم ومتطلّباتهم الاقتصادية والاجتماعية، وليكون التخلّص منهم ذا نتيجة مضاعفة، فهم لا يختفون عن أرض البلاد فحسب كما يحصل عند مالتوس عبر الموت أو الحدّ من الولادات، بل يؤمّنون باختفائهم مورداً مالياً هامّاً لعائلاتهم المُقيمة، فتكون النتيجة مضاعفة: التخلّص من قسم من السكّان من جهة، وزيادة الناتج المحلّي من جهةٍ أخرى، فيرتفع نصيب الفرد المُقيم من الناتج المحلّي. مالتوسية تهجيرية ذات نتائج مضاعفة ابتدعها نظامنا، كإبداع اللبناني الفينيقي في روايات النظام ومنظّريه.
نتائج سياسة التهجير واضحة، وأثبتت أنّها قارب نجاة النظام طوال العقود الماضية، فالأرقام المتداولة تقول إن ما يزيد عن 800 ألف لبناني هاجروا منذ انتهاء الحرب الأهلية حتّى اليوم، وهذا ينعكس مباشرة في تقديرات أعداد اللبنانيين المقيمين في لبنان، إذ بقي عددهم متراوحاً حول 4 ملايين لبناني مقيم لسنوات طويلة، وهذا يشير إلى ثبات نسبي في عدد اللبنانيين المقيمين في لبنان، ويبيّن دور الهجرة كأداة لامتصاص نموّهم الطبيعي. كذلك تشير الأرقام إلى أن هجرة هؤلاء تُسهم بنحو 8 مليارات دولار سنوياً في اقتصادنا من خلال تحويلاتهم إلى لبنان، وتخفّض معدّلات البطالة، وتسحب الشباب من دائرة الفعل السياسي، ليبقى النموذج مستمرّاً ومستقرّاً على الرغم من تزايد عوارض أزماته البنيوية العميقة.
كما بيّنت التجارب التاريخية عدم صحّة النظريات المالتوسية، كذلك تبيّن التجربة اللبنانية. فالنظام يواجه اليوم ما لم يحسب حسابه في السابق، إذ إن دروب هجرة اللبنانيين تضيق شيئاً فشيئاً. وفي المقابل، تدفّق نحو 1.5 مليون لاجئ إلى لبنان منذ اندلاع الصراع في سوريا، رفع عدد المقيمين في لبنان من 4.3 مليون نسمة في عام 2010 إلى أكثر من 6 ملايين نسمة حالياً، وفق تقديرات شعبة السكّان في الأمم المتحدة، ورفع عدد القوى العاملة (الأشخاص في سنّ العمل) من 1.5 مليون إلى 2.2 مليون ناشط اقتصادي، وفق تقديرات منظّمة العمل الدولية. وفي ظلّ هذه المتغيّرات، انخفض صافي تحويلات العاملين في الخارج (أي الفارق بين التحويلات الداخلة إلى لبنان والخارجة منه) من 5.1 مليار دولار في عام 2015 إلى 1.8 مليار دولار في عام 2017، وفق إدارة الإحصاء المركزي، وكذلك تراجع نصيب الفرد من مجمل الدخل القومي في هذه الفترة.
كيف سيواجه النظام هذه المتغيّرات؟ ماذا لو وجد اللبنانيون إمكانية لحياتهم في بلدهم، وبقوا فيه مساهمين في نموّه السكّاني والاقتصادي، وفي صراعاته السياسية والاجتماعية؟ هل كان النموذج الاقتصادي والسياسي القائم سيصمد في ظل المتغيّرات؟ الخيارات البديلة النقيضة لنموذج رأس المال المُسيطر اليوم مُمكنة، وهي تبدأ من تغيير السياسات التي تهمّش الاقتصاد المُنتج المولّد للعمل وإحلال سياسات تعيد توزيع الثروة والتنظيم الاجتماعي، لكن النظام لا يريد البدائل ولا الحلول.
ليست الهجرة ترفاً يمارسه المواطنون الحالمون، بل هي حاجة اضطرارية لدى أولئك الذين لا يجدون عملاً مناسباً لهم في ظل النموذج الاقتصادي القائم، فيضطر معظمهم، مُكرهاً، أن ينفكّ عن بيئته العائلية والاجتماعية، ويبدأ حياة جديدة من الصفر مع كلّ ما يرافق ذلك من معاناة وصعوبات وتضحيات. الهجرة كانت حلّاً لأزمة النظام وطريقة للتملّص من عبء السكّان وحاجاتهم. اليوم يواجه النظام طريقه المسدود، فما بديله؟ لا شيء سوى الإمعان في تكرار السياسات نفسها والمراهنة على شراء المزيد من الوقت.

المصدر: جريدة الأخبار