الخميس، آذار/مارس 28، 2024

لحظة "النيب" الحاضرة دوماً - ماركس ضد سبنسر

  ادارة الموقع
رأي
"كان واحدٌ من أوجه القصور لدينا بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية أننا لم نعطِ اهتماماً كافياً لتطوير القوى المنتجة".  دينغ شياو بينغ
تتزايد منذ فترة الحرب التكنولوجية على الصين من الولايات المتحدة، والتي كانت قد بدأت مع وضع الرئيس الأميركي دونالد ترامب شركة هواوي على اللائحة السوداء في العام 2019. ففي تشرين الأول/أكتوبر الماضي وضعت الإدارة الأميركية معوِّقات أمام شركات الذكاء الاصطناعي الصينية للحؤول بينها وبين الحصول على التكنولوجيا والمهارات الأميركية. ويعود هجوم الولايات المتّحدة إلى سببين: الأوّل، صعود الصين الاقتصادي والتكنولوجي خصوصاً في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الأساسية في الثورة الصناعية الرابعة. والثاني، تأكيد الصين، وخصوصاً منذ مجيء الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى سدّة الأمانة العامة للحزب الشيوعي، على أهمّية الماركسية والهدف الاشتراكي للصين. في هذا الإطار، اكّد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، الذي انعقد أيضاً في تشرين الأول/أكتوبر الماضي على الأمرين: أهمّية التطوّر الاقتصادي والتكنولوجي للصين، والأهداف الاشتراكية. الأمر الأساسي هنا أننا نشهد للمرّة الأولى منذ انتهاء الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية على مواجهة، وإن لم تصل إلى مرحلة الحرب الباردة بعد، بين نظامين الأول رأسمالي والثاني اشتراكي، حيث يُعاد فيها توجيه بوصلة الصراع العالمي من صراعات قومية أو إثنية نحو هذا الصراع الأيديولوجي الكبير. وفي هذا الصراع يلعب الاقتصاد والتطوّر التكنولوجي دوراً أكبر مما لعباه خلال الحرب الباردة (على الرغم من أهمّيتهما أيضاً آنذاك). طبعاً، بالنسبة للأميركيين وغيرهم فهم يبدون وكأنهم استفاقوا على هذه القوّة أو المكانة الصينية فجأة. فمنذ نحو ثلاثين عاماً، لم يكن في الحسبان أن الصين ستكون بهذه المكانة على الصعد السياسية والاقتصادية والتكنولوجية. ماذا حصل إذاً؟ يمكننا الإجابة على هذا بأنه في العام 1978 مرّت الصين بما يمكن أن نسمّيه "لحظة النيب".في هذا الإطار، من الشائع اليوم التحدّث عن لحظات تواجه الأمم أو الاقتصادات. فمثلاً، واجهت الولايات المتحدة "لحظة مينسكي" في العام 2008، وتواجه الآن "لحظة فولكر". والمؤرخ الاقتصادي الشهير آدم توز أضاف مؤخراً "لحظة كاليسكي" المناخية. سريعاً، تشير لحظة مينسكي إلى الاقتصادي الكينزي هايمان مينسكي، الذي اعتبر أن الاقتصاد الرأسمالي يخضع لمسارات تؤدّي إلى الأزمات. وتشير لحظة فولكر إلى الحاكم الأسبق للفدرالي الأميركي بول فولكر، الذي بدأ في العام 1979 سياسة نقدية متشدّدة أنهت التضخّم العالي الذي كان متمكّناً من الاقتصاد الأميركي، وأدّى ارتفاع الفوائد الصاعق آنذاك إلى أزمة الديون العالمية، وربّما كان أساسياً في نهاية الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى الحركة العمّالية في الغرب. أمّا لحظة كاليسكي فهي نسبة إلى الاقتصادي الماركسي البولوني مايكل كاليسكي، الذي تحدّث عن بروز المعارضة الرأسمالية لأي تدخّل للدولة في تحقيق العمالة الكاملة، وقد طبقها مؤخّراً المؤرِّخ والكاتب آدم توز على السياسة المناخية. هنا أضيف إلى هذه "اللحظات" أن كلّ دول "الاشتراكية المُحقّقة" واجهت في وقتٍ ما من تاريخها "لحظة النيب". وكلازمة لهذه الفرضية أن الدول الشيوعية التي تعاملت مع لحظة النيب استطاعت الاستمرار والنمو، اما التي تعامت عنها فقد انتهت.

 

لحظة النيب الروسية

أولى هذه اللحظات كان في روسيا الشيوعية في العام 1921 بعد أربع سنوات تقريباً على الثورة البلشفية. في آذار/مارس من تلك السنة، تقدّم لينين في المؤتمر العاشر للحزب البلشفي ببرنامج جديد للسياسة الاقتصادية سُمِّي لاحقاً بالسياسة الاقتصادية الجديدة أو "النيب" كمختصر من اللغة الروسية أو حتى الإنكليزية (NEP). كانت النيب كسراً راديكالياً مع السياسة التي اتبعت من الحزب الشيوعي خلال الحرب الأهلية ألا وهي "شيوعية الحرب"، والتي ألغت النقد وأجبرت الفلّاحين على التسليم العيني للمنتوجات الزراعية، وأمّمت أكثرية المؤسّسات وأصبح الاقتصاد كلّه موجّهاً نحو الاقتصاد الحربي وضمان انتصار الجيش الأحمر في الحرب. استطاعت شيوعية الحرب أن تضمن نصر الجيش الأحمر، ولكن كان لها تأثير كارثي على الاقتصاد فانخفض مؤشّر الإنتاج إلى 20 (1913=100).

ظنَّ البعض من الشيوعيين أن "شيوعية الحرب" ستستمرّ حتى الوصول إلى الشيوعية، لكن لينين بعبقريته السياسية وفهمه العميق للماركسية أدرك أن شيوعية الحرب ستؤدّي إلى نهاية الحكم البلشفي إذا استمرّت. فأتت النيب لتعيد خصخصة بعض المؤسّسات الصناعية وإعادة النقد والتجارة الحرّة، لكن مع بقاء الصروح المسيطرة في يد الدولة. أدّت هذه السياسة الجديدة إلى انتعاش الاقتصاد الروسي والسوفياتي، وبحلول العام 1927 استعاد الاقتصاد السوفياتي الخسائر التي تكبّدها في الحرب الكبرى والحرب الأهلية وشيوعية الحرب. ولكن في الوقت نفسه عادت الفوارق الاجتماعية إلى الظهور، والتي كانت اختفت قسراً سابقاً، وصعد ما عرف آنذاك بـ"رجال النيب"، أي الطبقة التي استفادت من الربح والتجارة. اعتبر الكثيرون من البلاشفة أن النيب كانت تخلّياً عن مبادئ الشيوعية. وانقسم الاقتصاديون السوفيات بين مؤيّد لنيكولاي بوخارين، الذي قال إنّ النيب يجب أن تستمرّ لفترة طويلة، وبالتالي فإن "الانتقال إلى الاشتراكية يتمّ على عربة الفلّاحين"، وبين يفجيني بريوبراجنسكي الذي قال إن النيب مؤقّتة وهناك حاجة إلى تخطّيها والبدء بالتصنيع وهو ما أسماه "التراكم الاشتراكي الأولي". وعُرف هذا الخلاف بنقاشات التصنيع. في النهاية، في العام 1928 تمّ التخلّي عن النيب من قبل ستالين، وتأميم القطاع الزراعي والقضاء على الأسواق والبدء بالخطط الخمسية للتنمية. على الرغم من هذا التطوّر، يمكن اعتبار النيب بين سنوات 1921 و1928 كنجاح للسياسة اللينينية التي حافظت على سلطة الحزب الشيوعي من الانهيار.

التفافة: لحظة النيب الألمانية؟

في العام 1949، أُعلِن عن قيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية في المناطق الخاضعة للسيطرة السوفياتية في ألمانيا، وذلك ردّاً على إعلان جمهورية ألمانيا الفدرالية. وعرفت بالألمانيتين الشرقية والغربية تباعاً. بدأت ألمانيا الشرقية بعد توحيد الحزبين الشيوعي والاشتراكي مسيرة بناء الاشتراكية. وقد كانت الظروف قاسية: من المساحة الصغيرة وعدد السكّان القليل نسبياً إلى التدمير الحاصل خلال الحرب إلى أكلاف التعويضات عن الحرب. بعد إقامة جدار برلين في العام 1961، أطلق أمين عام الحزب الاشتراكي الموحّد الألماني الشرقي والتر أولبريخت "النظام الاقتصادي الجديد"، الذي أدخل بعض التعديلات على نظام التخطيط وجعله أكثر مرونة، بالإضافة إلى إصلاحات في مجالات الثقافة والشباب والتعليم. وفي العام 1968، استبدل اسم السياسة لتصبح "النظام الاقتصادي للاشتراكية"، مع التركيز على قطاعات التكنولوجيا العالية. كان هدف أولبريخت من هذه الإصلاحات أن يصبح الاقتصاد أكثر كفاءة، وأن ينافس الاقتصاد الشرقي اقتصاد ألمانيا الغربية. لكن هذه السياسة لم تستمر، ففي العام 1971 وصل إريك هونيكر إلى الأمانة العامة مستبدلاً اولبريخت، وأعلن بداية ما عرف بـ "وحدة السياسة الإقتصادية والاجتماعية"، التي يمكن تلخيصها بأن هدف ألمانيا الشرقية ليس المنافسة مع ألمانيا الغربية اقتصادياً بل ببناء نظام سياسي مختلف ذي أهداف اجتماعية. في هذا الإطار، يمكن القول أن سياسة أولبريخت كانت بمثابة النيب الألماني وأن سياسة هونيكر كانت التخلّي السريع عنها. وأدّت سياسة هونيكر في تحقيق الأهداف الاجتماعية إلى زيادة الإنفاق الاجتماعي والواردات، وإلى الاستدانة من الغرب لأن الاقتصاد لم يكن قادراً على تلبية هذه الحاجات الجديدة، بالإضافة إلى استمرار الاستهلاك. في النهاية يمكن القول أن هذا التخلّي عن النيب هو الذي أدّى إلى نهاية ألمانيا الشرقية في العام 1990. تقول ماري فولبروك في كتابها "دولة الشعب: مجتمع ألمانيا الشرقية من هتلر إلى هونيكر"، إن سياسة هونيكر أُبقِي عليها إلى "النهاية المرّة"، وعلى الرغم من أنها "قد تكون جلبت بعض التحسينات الحقيقية القصيرة الأمد في الأوضاع الاجتماعية… ولكن في المدى الطويل لم تكن هناك وحدة حقيقية بين سياسات هونيكر الاقتصادية والاجتماعية... وتلك كانت من أهم العوامل في انحدار ألمانيا الديمقراطية".

لحظة النيب في الصين

كتب الاقتصادي الصربي- الأميركي الشهير برانكو ميلانوفيتش مؤخراً أن النظام الاقتصادي في الصين هو "الرأسمالية السياسية"، حيث تحافظ الدولة على استقلاليتها عن المصالح الرأسمالية، وأسمى الوضع الحالي في الصين بأنه "النيب طويلة الأمد"، التي قد تمتدّ إلى مئة أو مئتي سنة حيث "يُعطى الرأسماليون الحرية عملياً في كل المواضيع الاقتصادية، ولكن القمم المُسيطرة في الاقتصاد تبقى في يد الدولة (أي الحزب الشيوعي الصيني)، وأن السلطة السياسية لا يُشارك بها أحد، وبشكل خاص مع الرأسماليين". في هذا الإطار، هناك من يعتقد يميناً ويساراً أن الصين أصبحت دولة رأسمالية. طبعاً هذا الاستنتاج ناتج عن انتقاء منحاز من بين بعض الظواهر. صحيح أن هناك مليارديريين في الصين، وأن القطاع الخاص له وزن كبير، ولكن هذه التطوّرات حصلت نتيجة لسياسة هادفة من الحزب الشيوعي الصيني من أجل تحضير القاعدة المادية للاشتراكية، أي سياسة جديدة بدأت منذ العام 1978 شبيهة  بالنيب. فبعد ثلاثين عاماً من قيام الدولة الاشتراكية في الصين، والتجارب التي مرّت بها من "القفزة الكبرى إلى الأمام،" إلى الثورة الثقافية، حلَّل الحزب الشيوعي أن البلاد لم تكن حاضرة للاشتراكية، إذ أن تطوّر القوى المُنتجة أساسي في المرحلة الرأسمالية من أجل الوصول إلى الاشتراكية، وأن أي محاولة لحرق المراحل والانتقال من اقتصاد فلّاحي (الصين في 1949) إلى الاشتراكية سيفشل. يقول ماركس في مقدّمة المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي: "ليس هناك من نظام اجتماعي ينتهي قبل أن تتطوّر القوى المنتجة الملائمة له، ولا تَستبدل علاقات الإنتاج الجديدة المتفوقّة على العلاقات القديمة قبل أن تنضج الظروف المادية لوجودها في إطار المجتمع القديم". بهذا الفهم للمادية التاريخية أطلق دينغ شياو بينغ الإصلاحات في الصين، التي تضمّنت الأسواق والاستثمارات الخارجية وصعود القطاع الخاص ليس من أجل التخلّي عن الاشتراكية بل من أجل تحقيقها. وأتى اليوم المؤتمر العشرون ليؤكّد على ثلاثة أمور مترابطة: الهدف الاشتراكي والتطوّر التكنولوجي، واستمرار تطوّر القوى المنتجة، والتمسّك بالماركسية من أجل بناء دولة اشتراكية عصرية بحلول العام 2049، وبذلك تكون مسيرة الصين نحو البناء الاشتراكي طالت على مدى مئة عام.

كتب المستثمر الصيني كاي فو لي في كتابه "القوى العظمى في الذكاء الاصطناعي: الصين، وادي السيليكون والنظام العالمي الجديد" أنه عندما يُسأل المبادرون الصينيون بكم تتأخّر الصين عن الولايات المتحدة في الأبحاث حول الذكاء الاصطناعي، يجيب بعضهم بالمزاح "16 ساعة"، وهو الفارق الزمني بين كاليفورنيا وبيجينغ. في الواقع تحاول الصين اليوم أن تنافس الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا الرقمية، وفي خطتها أن تصبح رائدة عالمياً في الذكاء الاصطناعي بحلول العام 2030. إذاً التحدّي أمام الصين هو تكنولوجي، وتطوير القوى المنتجة هو أساسي في المنافسة مع الولايات المتحدة. في هذا الإطار، إن تجارب النيب وتجارب الاشتراكية المُحقّقة تجعلنا نستننتج أيضاً أن التطوّر التكنولوجي والصناعي والوصول إلى الاشتراكية في الدول غير المتقدّمة سيكون نوعاً من المزيج بين تصنيع بريوبراجنسكي السريع والتراكم الاشتراكي الأولي وبين عربة بوخارين في نموذجها الحالي أي "عربة الأسواق". السؤال الذي يبقى هو كيفية المزج بينهما وإبقاء السيطرة السياسية والأيديولوجية للأحزاب الشيوعية وهدف الوصول إلى الاشتراكية مستمراً. هذه هي "لحظة النيب" الحاضرة دوماً.

   غسان ديبة                                                                                                                                                                      عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني وأستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU). تتركّز أبحاثه حول الاقتصاد السياسي والاقتصاد الماركسي وتأثير أنظمة الذكاء الاصطناعي.                                                                                                                                  30 كانون الثاني 2023