الجمعة، نيسان/أبريل 26، 2024

فشل الصيغة اللبنانية منذ تأسيس دولة لبنان الكبير

  محمد شقير
رأي
يعيش اللبنانيون حالة من السخط العارم على السلطة السياسية جراء تدحرج كرة الاسعار التي لم تعد تستثني سلعةً ضرورية أو غير ضرورية. ويبدو الاستياء عارمًا لدى شاغلي وسائل التواصل الاجتماعي كما لدى غالبية اللبنانيين الذين يصبون جام غضبهم على تلك السلطة حتى أن مثقفي واعلاميي البلاط انفسهم بدأوا يتململون من سياسات القوى السياسية التي لطالما ناصروها ووقفوا سدًا منيعًا في الذود عنها وتلميعًا لصورتها. هذه الصورة المأساوية هي انعكاس طبيعي لفشل الصيغة اللبنانية منذ تأسيس دولة لبنان الكبير حيث استثمر المستعمر في التنوع المذهبي اللبناني بما يخدم مصالحه في بلادنا الى ما لا نهاية، فزرع بذور الفتنة وهيأ لها ظروف استمراريتها إن في الدستور وإن في نفوس الشعب اللبناني.

في هذا الوقت، يجري حوار من نوع خاص بين الشيوعيين وبعض اصدقائهم على صفحات التواصل الاجتماعي وطيف واسع من الذين شاركوا في انتفاضة 17 تشرين الى جانبهم وتماهوا معهم في تشخيص الأزمة ووضع العلاجات المناسبة لها، ويأخذ هذا الحوار مداه الأرحب لجهة توصيف الواقع ودور الحزب في مواجهة تلك الازمة التي تشتد يومًا في أثر يوم.

بعض الشيوعيين يطلقون صرخات مدوية داعيةً الحزب لاعلان الثورة والنزول الى الشارع لمواجهة سياسات السلطة الحاكمة والقوى التي تقف خلفها، ويتهم كثير من هؤلاء حزبهم بأنه يتخاذل عن القيام بدوره هذا تلبيةً لرغبات أحد أحزاب السلطة، ويعتبرون أنه ينتظر إشارةً ما من هذا الحزب ليتحرك في الشارع! فيما يوجه البعض الأخر اتهامات تتناقض مع البعض الأول، ويرون أن الحزب أخذ يصّطف يمينًا حول شعارات وتوجهات لدى حزب تاريخي كان من أعمدة السلطة وركائزها، ومع بعض الجمعيات المرتبطة باجندات ترسمها لها السفارات.

هناك، إضافة لهذين التيارين، إن جاز التعبير، فئة أخرى من الشيوعيين الذين لديهم حسابات داخلية ناتجة عن المتغيرات التي خرج بها المؤتمر الحادي عشر وكان من نتائجها تغيير في القيادة لم تهضمه القيادة السابقة. وهذه الفئة من الشيوعيين عليها أن تصفي النوايا وتعمل بما أمكنها وبلا كيديات، ولتحاول أن تفرض شروطها ونفسها في المؤتمر المقبل ولينتصر من يستطيع أن يقرّب عموم الشيوعيين من وجهة نظره. وهكذا يمكن أن يفوز الشيوعيون في نهاية المطاف بحزبٍ تفاعلي ديمقراطي حقيقي يصونوه ويحمونه بلحمهم الحي عندما تنتهي فعاليات مؤتمرهم المقبل وقد أثبتت الأحداث أن الحزب والحزبيين يلتصقون بقضايا شعبهم ولأجلها، لا يقبلون بمساومات مع هذا الطرف أو ذاك. وهذه الفئة مطالبة، اليوم قبل الغد، وأمس قبل اليوم، أن تعمل بصدق كحزب موحد وليس أن يشتت بعضهم بعضًا كما يحصل بين معظم القوى اللبنانية الذين يبررون فشلهم الدائم بمقولة "ما خلونا نشتغل" التي يجترونها كلما وجه أحدهم سؤالًا لهم عن انجازاتهم.

إن دعوة النزول الى الشارع أكثر من محقة والإحجام عنها ايضًا لديه من المسوغات ما يجعله خيارًا منطقيًا. فمن يضمن ونزول اللبنانيين الى الشارع؟ ومن يتحمل نتائج الفشل هذه المرة؟ وهل من يصرخون خلف شاشات الهواتف ويدونون منشورات الاستياء من الوضع العام ظنينون بالشارع ومستعدون للتحرك، أم هم " يفشون خلقهم" ثم يصطفون بطوابير الذل منتظرين سلعةً مدعومة لا تغني ولا تسمن من جوع؟

تجربتا انتفاضة 2015 وانتفاضة 17 تشرين 2019، تعتبران من أشد وأوضح التجارب في حركة الشعب اللبناني؛ فقد واجه اللبنانيون في هاتين الانتفاضتين واحدة من أقصى أنواع السلطات في العالم، وربما في التاريخ المعاصر في منطقتنا العربية، وأكثرها قوةً وبطشًا.

كلنا يعلم أن الدولة في لبنان ليست سلطة ومعارضة طبيعية كما جميع دول العالم؛ فالتشابك القائم بين الممسكين بها وبمفاصلها وحالة العداء والتحابب فيما بينهم وارتكازهم على عدة قواعد صلبة جدًا، تجعلهم قادرين على التموضع والتحرك والمناورة كما يشتهون وكما يحلو لهم بغية حمايةً مصالحهم ومصالح قادتهم تنفيذًا لرغبات رعاتهم الخارجيين، فضلًا عن الدور المحوري والمركزي الذي تضطلع به المؤسسات الدينية في تطويع المجتمع اللبناني وتكييفه بحسب مصالحها هي ايضًا المرتبطة بمصالح الراعين لها. ومن هنا علينا أن نرى الى مشهدية السفير السعودي والحجيج الذين قدموا الطاعة والاعتذار عن فعلٍ، كلهم، ليسوا معنيين به. كما لا يمكننا إلا أن نمعن النظر في سلوكيات أخرى، في الضفة الثانية، كالتي حصلت مع الزميل قاسم قصير منذ أشهر، وهي لا تقل قساوةً عن مشهدية السفارة.

لقد حققت انتفاضة 17 تشرين الكثير من الانجازات وقرّبت اللبنانيين الى بعضهم بعضًا وشعرنا في خلالها، أن الانتصار على السلطة قاب قوسين أو أدنى، ولم ننتبه الى أن السلطة لا تكتفي بما ذكرناه سابقًا من قدرات كبيرة جدًا لتكرسها لصالحها، بل هي تملك ايضًا عوامل مختلفة في البيئات الحاضنة المستعدة للتضحية بكل شيء تملكه وتستطيعه ليس لمنع الإطاحة بالزعيم بل لرفض توجيه شتيمة عادية له. كيف ننسى الغزوات التي حرقت الخيّم وارعبت المنتفضين حيث وبدل أن تكون المعركة بين السلطة والناس صارت بين الناس والناس أنفسهم في تعبير واضح عن القدرات الخارقة التي تمتلكها السلطة؛ فضحاياها كانوا، ولا زالوا، هم هم، ولم يتغير فيهم شيء بل بعضهم زاد صلافةً وهو مستعد للمواجهة في أي لحظة دفاعًا عن السلطة ورعاتها. وهل ننسى كيف احتمت قوى تسببت بهذا الخراب المببن، بالمنتفضين، وصارت ترفع شعارات تزايد فيها عليهم؟! فيما يتمسك جمهورها ايضًا، اليوم، بسعد الحريري كما لو أنه رجل آتٍ من عالم الاختصاصيين ولم يسبق له أن ترأس حكومات، لا هو ولا تياره، منذ التسعينيات وحتى يومنا هذا! وفي هذا السياق من المفيد التذكير بهفوة سامي الجميل التي سقط فيها، صادقًا مع نفسه، في مقابلة مع الاعلامي المروّج للفدرلة مارسيل غانم، حين قال بأن الطبقة الحاكمة لن تسمح لسعد الحريري بالعمل! وهو أحد الأحزاب التي يصر فريق معين على اتهام الشيوعي، زورًا، بالتحالف معه بل بتتفيذ أجندة لصالحه!

علينا أن لا ننسى الاسابيع الأخيرة من عمر الانتفاضة التي كنا ننظم فيها مسيرات اسبوعية تنطلق كل نهار سبت من منطقة معينة فكانت هزيلة جدًا إذ احجم اللبنانيون عن المشاركة فيها، ولولا جائحة كورونا لفتشنا عن حجةٍ نخرج بسببها من الشارع، فشكرًا لهذه الجائحة التي، مع الأسف الشديد، انقذت السلطة في بداية انتفاضة تشرين وانقذت الانتفاضة ايضًا من فشل محتم في حراكاتها الأخيرة.

كل هذه المعطيات وغيرها، تجعل للإقدام على أي خطوة غير مدروسة جيدًا، ثمنًا باهظًا ليس من السهولة بمكان تحمله، ولا سيما في ظل المناوشات الأرضية والسياسية والاعلامية التي تجري بين جميع اركان السلطة وقواها.

المشهد السياسي والشعبي اللبناني معقد جدًا ومواجهة السلطة ليس أمرًا يسيرًا ويحتاج الى مراكمة النضال للوصول الى مرحلة متقدمة تجعل الانتصار قريب وقريب جدًا، ويحتاج الى فهم ما يدور ليس في لبنان وحسب بل وفي المنطقة ككل وهنا، ربما تكمن علة لبنان بارتباطها بعلل المحيط ولا سيما بالدور المناط بالكيان الصهيوني اضافة الى الواقع العربي الهزيل الذي يتلاعب بشعوبه قوى عالمية واقليمية كيفما يحلو لها.