تطور مؤشر أسعار الاستهلاك عن "مؤسسة البحوث والاستشارات": قراءة للوضع الراهن في سياق تاريخي

لبنان
بعد سنوات طويلة من تراكم الخلل البنيوي في السياسات العامة، دخل لبنان بشكل معلن وصريح بدءا من تشرين الأول 2019 في دوّامة انهيار غير مسبوق، بحسب ما تعكسه المؤشّرات على أكثر من صعيد: تراجع حاد في معدّلات النمو الاقتصادي، وتفاقم استثنائي في عجز المالية العامة وعجوزات الحسابات الخارجية وبخاصة ميزان المدفوعات، والإفلاس الفعلي للقطاع المصرفي، ونشوء سعرين لليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي للمرّة الأولى في بلد يستورد معظم احتياجاته الاستهلاكية بالعملة الأجنبية. ويشكل ارتفاع أسعار الاستهلاك أحد أهم المؤشرات المعبّرة عن هذا الخلل البنيوي، والمؤثّرة في الأحوال المعيشة للبنانيين والمقيمين الذين يعتمد معظمهم على مداخيل ونفقات محرّرة بالعملة الوطنية.


يستهدف هذا التحليل إجراء قراءة مكثّفة لتطور مؤشّر الأسعار خلال الأشهر الأخيرة، وللمنحى العام المرتقب أن يسلكه في الأمد المتوسط. ويستند التحليل الى القاعدة الاحصائية المتاحة لدى مؤسستنا ("مؤسسة البحوث والاستشارات")، التي بادرت منذ إنشائها عام 1977 - وما تزال - الى إصدار مؤشرها الشهري حول أسعار الاستهلاك في نطاق بيروت الكبرى، بعدما كانت مديرية الاحصاء المركزي قد توقّفت عن إعداد ونشر مؤشرها على مدى نحو ربع قرن بدءا من آذار عام 1975 ولغاية عام 1999. وإذ نشير الى ان النتائج الاجمالية للمؤشّرين ظلّت تصبّ منذ عام 2000 في منحى متقارب الى حدّ كبير، إلا أن هذه النتائج لا تظهر تطابقا كاملا لأسباب عدّة أهمّها اختلاف التثقيلات المعتمدة في المؤشرين، أي اختلاف الوزن الذي يمثّله الإنفاق المخصّص لكل بند من بنود استهلاك الأسر كنسبة من مجموع إنفاقها.
وتنبيها من مخاطر مستقبلية قد تكون مرجّحة، نعرض قراءتنا لأبرز النتائج والاستنتاجات والتوقّعات التي يمكن استخلاصها من تطور المؤشر الصادر عن مؤسستنا، على النحو الآتي:
1- من الصحيح القول أن إنفكاك سعر صرف الليرة الرسمي عن سعرها الحرّ بدءا من تشرين الأول 2019، قد أفضى الى زيادات فورية كبيرة في أسعار بنود أساسية في سلّة الاستهلاك، لا سيّما الغذائية منها (راجع حساب مؤسستنا على منصّة تويتر - crilebanon)، وهو الأمر الذي تناولته باسهاب مؤخّرا وسائل الاعلام والعديد من الجمعيات المدنية المعنية بحماية المستهلك. ولكن بالرغم من هذه الزيادات الافرادية في عدد غير قليل من البنود، فان المؤشر العام للأسعار - الذي يتضمّن نحو ألف سلعة وخدمة - لم يبدأ في الارتفاع فعليا إلّا في كانون الأول عام 2019. هذا مع الملاحظة أن معدلات الارتفاع السنوية للأسعار (شهرا شهرا أي في كل شهر من عام 2019 مقارنة مع الشهر نفسه من عام 2018) قد بقيت على إمتداد الأشهر الإحدى عشرة الأولى من عام 2019 إما سلبية أو قريبة من الصفر، ارتباطا باستمرار وجود نظام السعر الواحد للعملة اللبنانية حتى شهر تشرين الأوّل من العام، وارتباطا كذلك بواقع الانكماش الاقتصادي المسيطر على البلد.
2- مع حلول شهر كانون الأول عام 2019 بدأت تظهر سلسلة الزيادات المتعاقبة في الأسعار بحسب ما يظهره الرسم البياني رقم (1): 4،6% في كانون الأول 2019 (مقارنة مع كانون الأول 2018)، و8،7% في كانون الثاني 2020 (مقارنة مع كانون الثاني 2019)، ثم 11،4% في شباط 2020 (مقارنة مع شباط 2019)، لتتجاوز نسبة الارتفاع 13% في آذار 2020 (مقارنة مع آذار 2019). ويشار ألى أن الزيادة المسجّلة في آذار تصبح 18،2% عوضا عن 13% في حال جرى إخراج بنود أساسية من احتساب المؤشّر (بنود الملابس، والترفيه، والسلع المديدة الاستهلاك تحديدا) حالت الظروف دون التمكّن من جمع أسعارها في هذا الشهر بسبب قرار الدولة إغلاق المؤسسات التجارية. وأكثر ما يقلق، لجهة ما يرتّبه من آثار على الفئات الشعبية والفقيرة، هو المنحى الأكثر صعودا لارتفاع أسعار الموادّ الغذائية التي زادت معدلاتها السنوية بنسبة 3،1% في كانون الأوّل 2019 وبنسبة تزيد عن 10% في كانون الثاني 2020 لترتفع بنسبة 16.8% ثم20% تباعا في شباط وآذار من العام نفسه. وهذا يعني أن الموادّ الغذائية هي التي شكّلت القاطرة الأساسية لارتفاع المؤشّر العام للأسعار في الأشهر الأخيرة.

 

1:المعدلات السنوية لارتفاع مؤشر الأسعار شهرا شهرا

 

3- إن التأخّر النسبي في انعكاس ارتفاع سعر صرف الدولار تجاه الليرة على أسعار الاستهلاك بعد تشرين الأول 2019 (راجع الرسم البياني رقم 2) يمكن تفسيره بعوامل عدّة، أهمها الآتي:

• إلتزام الدولة اللبنانية عبر مصرف لبنان - حتى إشعار آخر - بدعم فاتورة استيراد المحروقات والأدوية والقمح، وهي بنود أساسية في سلّة استهلاك الأسر عموما؛
• استمرار تثبيت القيمة الإسمية لتعريفات الخدمات والمرافق العامة الأساسية ولمعدلات الرسوم والضرائب، فضلا عن الثبات النسبي في أسعار بنود أساسية في مؤشّر السكن؛
• تقلّب أسعار الخضار – صعودا وهبوطا - الوافدة بقسم منها من سوريا التي سعت الى التعويض عمّا فاتها من عملات صعبة (من السوق اللبنانية) بعد الانهيار المالي المستجدّ في لبنان؛
• تضاف الى ما سبق تداعيات انكماش الاقتصاد اللبناني وتحوّل معدلات النمو الى السلبية مند عام 2018، وهو الأمر الذي دفع شريحة من التجار والمستوردين الى تفضيل التصفية السريعة لمخزونهم السلعي، على الأقلّ في المدى القصير، بدل المشاركة الفورية في موجة زيادة الأسعار كنتيجة لانخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي؛ ...

 

2: الارتفاع السنوي المقارن لمؤشر أسعار الاستهلاك ومؤشّر سعر صرف الدولار تجاه الليرة
تشرين الثاني 2019- آذار 2020

 

4- لكنّ أشدّ ما ينبغي التنبيه اليه يتمثّل في الدروس التي ينطوي عليها تحليل العلاقة التاريخية المقارنة بين تطور المؤشّر العام لأسعار الاستهلاك وتطور مؤشّر سعر صرف الدولار الأميركي تجاه العملة الوطنية. فاستنادا الى القاعدة الاحصائية المتاحة لدى مؤسستنا، يتبيّن أن المنحى الصاعد لتطور المؤشّر السنوي للأسعار قد ظلّ على الدوام – ما بين أواسط السبعينيات ولغاية اعتماد سياسة التثبيت النقدي في أواسط التسعينيات - متجاوزا لمنحى تطور المؤشّر السنوي لسعر الصرف الدولار الأميركي تجاه الليرة اللبنانية (مع استثناءات محدودة بين عام 1985 وعام 1987). أما بعد تطبيق سياسة التثبيت النقدي، فان الفجوة بين المؤشّرين مالت نحو الإتساع بحدّة أكبر، حيث اتجه المنحى العام لمؤشّر سعر صرف الدولار تجاه الليرة نحو الاستقرار بل الثبات عاما بعد عام (عند عتبة تناهز 1500 ل.ل للدولار الواحد)، بينما واصل المنحى العام لمؤشّر أسعار الاستهلاك وجهته الصاعدة. ويمكن التذكير، تأكيدا لهذا الواقع، بمعركة هيئة التنسيق النقابية التي رفعت على مدى سنوات شعار تصحيح الأجور بنسبة 121% تعويضا عن الغلاء المتراكم بين عام 1996 وعام 2012، في وقت كان سعر الليرة تجاه الدولار الأميركي قد استقرّ بشكل شبه كامل في هذه الفترة كنتيجة لتطبيق سياسة التثبيت النقدي.

5- تظهر الرسوم البيانية (3) و(4) و(5) تطور المنحى العام لهذين المؤشّرين في حقب زمنية ثلاث لكل منها خاصيتها النسبية، وقد استحال جمعها في رسم بياني واحد لأسباب تقنية مرتبطة بتضاعف الرقم القياسي لمؤشّر أسعار الاستهلاك نحو 4800 ضعفا بين عام 1977 وعام 2019:

• الحقبة الأولى تمتدّ بين عام 1977 وعام 1985، وقد تميّزت بفوارق مقبولة نسبيا بين المؤشّرين (لصالح مؤشّر الأسعار)، مع ميل مؤشّر سعر صرف الدولار نحو اللحاق بمؤشر أسعار الاستهلاك عام 1985.
• الحقبة الثانية تغطّي الفترة ما بين عام 1985 وعام 1997، وقد شهدت، بعد التقارب النسبي في منحى تطور المؤشرين خلال السنوات 1985- 1988، عودة المنحى الصاعد لمؤشر الأسعار فيما كان مؤشر سعر صرف الدولار يميل نحو التراجع بدءا من عام 1993.
• الحقبة الثالثة تمتدّ بين عام 1997 وعام 2019، وقد سجّلت ترسّخ وإتساع الفجوة المحقّقة في الحقبة الثانية، بفعل استمرار الميل الصاعد لمؤشر الأسعار بالرغم من الثبات شبه الكامل لمؤشر سعر صرف الدولار تجاه الليرة.

 


3: التطور المقارن للمؤشّرين في الفترة 1977- 1985(الأساس عام 1977 = 100)

 

4 : التطور المقارن للمؤشّرين في الفترة بين عام 1985 وعام 1997 (الاساس عام 1985= 100)

 

5: التطور المقارن للمؤشّرين في الفترة بين عام 1997 وعام 2019 (الاساس عام 1997 = 100)

 

6- تظهر هذه الوقائع بوضوح أن إرتفاع تكاليف المعيشة في لبنان خلال العقود الأربعة الماضية لم يكن محكوما فقط بتطور سعر صرف الدولار الأميركي تجاه الليرة اللبنانية (بالرغم من أهمية هذا العامل)، وإنما كان يتغذّى أيضا، وبقوّة أكبر، من جملة عوامل عميقة ومترسّخة في بنية الاقتصاد اللبناني، وأهمّها:
• سيطرة التكتلات ذات الطابع الاحتكاري (أو "احتكار القلّة") على أسواق الاستيراد ومعظم الأسواق الداخلية، بحسب ما تؤكّده دراسات احصائية رصينة وموثّقة حول واقع "المنافسة" في الاقتصاد اللبناني، وسط غياب التشريعات والمراسيم التطبيقية الخاصة بمكافحة الاحتكار، وكذلك وسط استمرار المفاعيل الملتبسة لقانون التمثيل التجاري الذي ساهم في تدعيم سيطرة هذه التكتلات؛
• ترسّخ التشوّهات والاختلالات في بنية أسعار الاستهلاك الداخلية وأسعار صرف الليرة الخارجي (تجاه العملات الأجنبية غير الدولار)، كنتيجة لمفاعيل سياسة التثبيت النقدي التي عزّزت الاستيراد وأضعفت الجزء القابل للتصدير والتبادل من الانتاج المحليّ ومن قدراته التنافسية عموما.
• تحوّل لبنان الى بلد مستهلك بامتياز – مع تمويل جزء مهمّ من هذا الاستهلاك عبر الاقتراض الداخلي والخارجي وعبر قنوات تدفق العملات الأجنبية من الخارج - وصولا الى تجاوز الاستهلاك الخاص والعام للناتج المحليّ القائم بدءا من عام 2018 بحسب ما تظهره التقارير السنوية الصادرة عن إدارة الاحصاء المركزي حول نتائج "المحاسبة الوطنية"؛
• ضعف بل غياب التشريعات والمراسيم التنظيمية الخاصة بحماية المستهلك، لا سيّما تلك المتعلقة بمكافحة الاحتكار وتعزيز المنافسة، الى جانب محدودية فعالية أجهزة وآليات الرقابة على أسعار الاستهلاك التي يستحيل ضبطها عمليا عبر الاستناد فقط الى تطبيق قرار هوامش الأرباح (كما هي صادرة عن قبل وزارة الاقتصاد).
ماذا نستنتج من المسار الراهن والمستقبلي لتطور الأسعار؟
اذا كانت المعادلة التي حكمت على مدى أكثر من 40 عاما العلاقة بين تطور أسعار الاستهلاك وتطور أسعار صرف العملة اللبنانية مرشّحة لأن تستمرّ قائمة في المدى المنظور، فان هذا يدفع الى التحذير بصوت عال مما سوف تستقرّ عليه وجهة هذه العلاقة مستقبلا. فما نشهده راهنا من تأخّر زيادة أسعار الاستهلاك في اللحاق بارتفاع سعر صرف الدولار تجاه الليرة ينبغي اعتباره أمرا ظرفيا وقصير الأجل في ضوء التجربة التاريخية الطويلة المحقّقة، وينبغي بالتالي أن نتوقّع تقلّص الفجوة بين هذين المؤشّرين في المدى المتوسط وإن بشكل تدريجي. لا بل أن احتمال عودة منحى تطور أسعار الاستهلاك الى تجاوز منحى تطور سعر صرف الدولار تجاه الليرة اللبنانية سوف يبقى يشكّل خطرا داهما في المدى المتوسط، وستكون له آثار فظيعة على ادخارات اللبنانيين وقوّتهم الشرائية ومعاشاتهم وتعويضاتهم التقاعدية، خصوصا اذا ما تأخّرت المعالجات المطلوبة وسط استمرار تفاعل أزمات الاقتصاد الكلّي والمالية العامة والمصارف والنقد بالتزامن مع الخلل المتعاظم في الحسابات الخارجية.
بالطبع إن المعالجات الناجعة في مواجهة ارتفاع الأسعار ليست فقط معالجات نقدية أو مالية أو رقابية أو اكتفاء بالتعامل مع تبعات ارتفاع الأسعار ونتائجه دون التصدّي للأسس المسبّبة لهذا الارتفاع. بل هي تبدأ باستعادة بناء الثقة بالبلد واقتصاده الوطني وقضائه المستقل، عبر الشروع الفوري في تحقيق ما رفعته الانتفاضة الشعبية من مطالب أساسية - مشروعة ومحقّة – بشأن إقرار خطة وطنية للإنقاذ والنهوض الاقتصادي تبدأ بتوفير الحيثيات الملموسة لاسترداد المال العام المنهوب أو المبدّد، وتتصدى لإصلاح النظام الضريبي وإعادة هيكلة الانفاق العام، وترسي القاعدة الصلبة لتحفيز قطاعات الانتاج، بالتزامن مع معالجة أسس مشكلات العجز والدين العام والانهيار النقدي وإفلاس المصارف. وتركّز هذه الخطة - بالأولوية - على الاستثمار في البنى التحتية وتطوير الانتاج الحقيقي وخلق فرص عمل لائقة للخريجين من الشباب وللمتعطلين عن العمل، وعلى صياغة استراتيجية متكاملة للحماية والتنمية الاجتماعية تتمحور حول تحصين أوضاع الفقراء والشرائح الدنيا والمتوسطة من الأجراء والعمّال والطبقة الوسطى في بلد يشكو من طغيان أوجه عدم العدالة وعدم المساواة.