الجمعة، نيسان/أبريل 26، 2024

عكّار: حين تنتفض الأطراف وتهزّ هيكل الزعامات.. عن حفنة ناشطين تحوّلوا إلى حماة حقوق

  ادارة الموقع
لبنان
يقف عبد الرحمن زكريا الملقّب بـ”جون سينا” أمام كاميرا هاتف البث المباشر لمراسل محلّي في ساحة حلبا – عكّار. وفي غضون ثوانٍ يستشيط غضباً ويحمرّ وجهه ويبدأ بالصّراخ وهو يعدّد المشاكل التي يواجهها الأهالي يومياً: “عم نشحد لقمة الخبز، عم نوقف طوابير قدّام الصيدليات، عم نموت قدّام المستشفيات، عم.. عم…”. ومع كلّ “عم” يصعد الدم إلى رأسه ويزداد وجهه احمراراً. لا يصطنع جون سينا الموقف، فغضبه جاهز ينتظر سؤالاً أو مناسبة ليخرج، فهذه يوميّاته ويوميّات الأهالي. يُنهي مداخلته الغاضبة ويتراجع.

قبل دقائق، وقف غيث حمّود أمام كاميرا الهاتف نفسه وكاميرا هاتف آخر تبثّ على صفحة “خيمة اعتصام حلبا” على فيسبوك وتلا “موقف اليوم”. قرأ غيث البيان أمام كاميرا الهاتف كما اعتاد منذ بدء الانتفاضة، فكاميرات التلفزيونات لم تحضر إلّا نادراً إلى عكّار وغيث لم يقرأ بياناً أمام كاميرا تلفزيون ولكن ذلك لا يهمّ. فهو يعرف أنّ صفحة الحراك لديها 47 ألف متابع ومتابعة، جمعتها بفضل “اللايف” وبثّها النشاطات التي تحصل في الخيمة وتوثيقها كلّ تحرّك يجريه الناشطون لتتحوّل إلى ذاكرة حراك عكّار وأرشيفه.

الساعة الآن الخامسة عصراً، والتاريخ 16 تشرين الأول 2020، أي عشية الذكرى السنوية الأولى لانطلاقة الانتفاضة الشعبية، والبيان يعود سريعاً على أبرز محطّات حراك عكّار وأهدافه. لكن “النّدهة” اليوم ليست من أجل الذكرى بل من أجل رفيقيْ الدّرب أحمد حمد وزياد عيّاش الموقوفين على خلفية إحراق مكتب التيار الوطني الحر على طريق عام منيارة في 6 شباط 2020. التيّار أسقط الدعوى ضد 11 شاباً من الحراك ولكنّ الملف لم يقفل بسبب فوضى في الإجراءات القضائية، على حدّ قول الناشطين الذين يرون أن القاضية تماطل كونها محسوبة على التيار.

أنهى غيث البيان وارتفعت الهتافات “… الكلّ ينادي: ثورة! ثورة أحرار.. ثورة! ثورة! ثورة!”. هتف الشباب لبعض الوقت وصمتوا لكنّهم لم يغادروا الساحة، فالمراسل المحلّي لـ”إل بي سي” مُنح الهواء لبعض الوقت لكي تظهر ساحة حلبا على الشاشة في كادر مع ساحات أخرى من مختلف أنحاء البلاد. ما هي إلّا دقائق حتى أشار المراسل بيده كعلامة على انتهاء البث وأنزل الهاتف: انتهى الوقت المخصّص لعكّار على الشاشة مثلما انتهى منذ زمن بعيد على ساعة الدّولة وتفرّق الجمع… في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، التقت “المفكرة القانونية” الناشطين فراس عبد الله وغيث حمّود وخالد الريّس من “خيمة اعتصام حلبا” التي شكّلت علامة فارقة في الحراك في لبنان عموماً وعكّار خصوصاً من حيث اشتباكها المباشر مع ممثّلي السّلطة بكلّ أوجهها سواء السياسية والمحلّية والمصارف، في جلسة استعادة لأبرز المحطّات والمواقف والتحرّكات التي قادتها “الخيمة” وفي محاولة لتوثيق التجربة وتقييمها.

الاشتباك مع السّلطة بمختلف أوجهها

أولاً: المعركة ضدّ السلطة السياسية

كان “المستقبل”، لسنوات، التيّار المهيمن بلا منازع على الساحة السياسية في عكار ولكن من دون أن تنال المنطقة أيّ شيء من نوّابه على الصعيد الخدماتي والإنمائي إلى أن حلّت الانتخابات الأخيرة بقانونها النّسبي لتجلب له شريكاً هو التيار الوطني الحر الذي حصّل مقعدين نيابيين. وبالطبع لم تنَلْ المنطقة من الشريك الجديد أي جديد أيضاً وبقي الحرمان على حاله. ويتمثّل المستقبل بالنوّاب وليد البعريني (الذي انشقّ عن خط والده وجيه البعريني) ومحمد سليمان وطارق المرعبي وهادي حبيش، فيما يتمثّل التيار بالنائبين أسعد درغام ومصطفى علي حسين. يضاف إلى هؤلاء نائب للقوّات اللبنانية هو وهبة قاطيشا.

يدرك شباب الحراك تماماً أنّ معركتهم ضدّ السلطة السياسية صعبة جداً. فالمستقبل والوطني الحر هما تيّاران رئيسيّان في السّلطة، الأوّل يمسك برئاسة الحكومة (في الأشهر الأولى للانتفاضة قبل استقالة سعد الحريري) والثاني برئاسة الجمهورية وبالكثير من مفاصل الدّولة. ولكن رغم ذلك لم يتوانَ الناشطون عن رفع شعاراتهم بكلّ جرأة ضد السلطة السياسية والأحزاب وطالبوا، بحسب البيان الذي تلاه غيث، بـ”إلغاء الطائفية السياسيّة وتشكيل حكومة إنقاذ وطنية بصلاحيات استثنائية من خارج أحزاب السّلطة وأعوانها وإجراء انتخابات نيابية مبكرة بعد إقرار قانون انتخابيّ خارج القيد الطائفي” و”إقرار قانون استقلالية القضاء وإطلاق يده لاسترجاع الأموال المنهوبة ومحاسبة النظام المصرفي – السياسي الفاسد”. وفي أوج الانتفاضة، كان المارّ من ساحة حلبا يقرأ شعارات الحراك على لوحة إعلانية تتوسّط الساحة أبرزها: “دولة مدنية”، التي يعتبر الناشطون أنّ فيها الخلاص لمنطقتهم وللبلاد لأنّها ستقضي على آفّة الطائفية، سبب العلّة الأساسي في نظامنا السياسي. وكان غيث قد حصل على قرض صغير قبل اندلاع الانتفاضة واشترى اللوحة، على أن يؤجّرها للمعلنين كمصدر رزق له، ولكن مع انطلاق الانتفاضة حوّلها إلى منصّة لشعارات الحراك.

وفي وسط ساحة حلبا نصب الناشطون خيمة لتكون مقرّهم منه تنطلق نشاطاتهم ومسيراتهم وجولاتهم، وفيها يعقدون اجتماعاتهم ويخطّطون ويتكاتفون، وتحت شادرها ينظّمون الندوات التوعويّة ثلاث مرّات في الأسبوع ويجرون جلسات حوارية يناقشون هموم الناس وينتقدون من دون خوف السّلطة وممثليها في عكار وسياساتهم القائمة على المحاصصة والزبائنية والاستزلام والفساد.

وكانت للناشطين مواجهة كبرى على الأرض مع هؤلاء في آذار الماضي، خلال التعبئة العامّة لمكافحة فيروس كورونا، حين كان نوّاب عكّار السّبعة يعقدون “حفلة تسوّل” – على حدّ تعبير الناشطين – لجمع تبرّعات للمستشفى الحكومي رغم أنّهم والتيّارات التي يمثّلونها هم المسؤولون عن تدهور وضع المستشفى، بحسب الناشطين. ويرى هؤلاء أنّ نهج هؤلاء النوّاب يشبه نهج السّلطة التي، بفسادها وسياساتها الخاطئة، تقود إلى تدهور الأوضاع المعيشية والصحية والخدماتية والإنمائية في البلاد ومن ثم تشحذ على أبواب الدّول والصناديق الدولية باسم الشعب الفقير، أموالاً تنفقها مجدداً بطريقة خاطئة أو تسرقها مجدداً لتستمرّ دورة البؤس.

يومها، حاول الناشطون دخول اجتماع النوّاب، الذي كان منعقداً في مركز عصام فارس البلدي في حلبا، فمنعهم الدرك ولكنّهم احتشدوا وتكتّلوا أمام مدخل المركز قبل أن يتحوّل التجمّع إلى تدافع مع أنصار النائب وليد البعريني الذين أطلقوا النار في الهواء لتفريق الناس، لحقهم مرافقو حبيش الذين كثّفوا الرصاص قبل أن ينفضّ اجتماع النوّاب ويغادروا المبنى.

يرى غيث أنّ الحادثة إنجاز “رغم إنّه المصاري انقرطت بس نحنا يومها زعبناهم وهيدي مش شغلة قليلة”. ويذكّر رفاقه أنّه في نيسان من العام الماضي، حين عاد الحديث عن مكبّ سرار، وأثناء فعاليات “يوم سرار” التي نظّمتها خيمة حلبا استشاط النائب هادي حبيش غضباً وتوجّه إلى القرى المحيطة بالمكبّ التي انتفضت عام 2015 وجال على عدد من المنازل لحثّ الناس على ردع شباب الخيمة. “من يومها كبرت القصّة براسه”.

واستذكر فراس قصة أخرى عن حبيش حين دخل أحد المطاعم الصغيرة يملكه شخص يتردّد على الخيمة، يقول فراس: “كنّا نظنّ صاحب المطعم معنا على أساس أنّه من يأتي إلى الخيمة، ولكن تبيّن أن زوجته التي تحاسب على الصندوق معنا أيضاً. فحين دخل حبيش إلى المطعم ليأكل، لم يوجه إليه صاحب المطعم كلمة غير أنّ زوجته وما إنّ توجّه صوبها ليدفع قالت له “شعار كلّن يعني كلّن إنت جزء منن”، وحين همّ ليدفع قالت له “ما منقبل مال حرام”.

هذه انتصارات صغيرة ربما، ولكن في القاموس السياسي في المنطقة تعتبر كبيرة “هون بحياة عمرا ما حدا وقف بوجّ المستقبل، نحنا الوحيدين وقفنا بوجّه وحكينا” يقول خالد. “المستقبل أصعب رقم، وليد البعريني جاب 20 ألف صوت، أكتر من كل الباقيين (نال البعريني أعلى نسبة اصوات تفضيلية بلغت 20426 صوتاً في انتخابات 2018، وبلغ عدد الناخبين 287071 فيما بلغ عدد المقترعين 136947)”. هزّ حراك عكّار إذاً هيكل الزعامات المحلّي لأوّل مرة، وبتعبير خالد: “انتبهوا نحنا مش هيّنين”.

ثانيا: المعركة ضدّ السلطة المحلّية

ونظراً إلى صلابة السور الذي تحيط به السّلطة السياسية نفسها، قرّر الناشطون التركيز على محاربة الفساد في السلطة المحلّية حيث بدأوا بحملة إغلاق للمؤسسات الرسمية: “نحنا ضدّ نموذج السّلطة بلبنان وهيدي المؤسسات بتمثّل هالنموذج بالمحاصصة والفساد والزبائنية اللي بتمثّلها”، يقول فراس. وأغلق الناشطون المؤسسات الرسمية المالية والعقارية، مرتع الرشاوى والمحسوبيّات، وفروع أوجيرو وليبان بوست لأنّها تمثّل نموذج الخصخصة الفاشل حيث أنّهما شركتان خاصتان يملكهما مسؤولون في السلطة تقومان مقام المؤسسة العامة مما يؤدّي إلى إضعاف القطاع العام، كما أغلقوا مؤسسة الكهرباء التي لا تصل سوى فواتيرها إلى عكّار. كذلك أغلق الناشطون فروع شركتي ألفا وتاتش احتجاجاً على تسليم الموزعين بالدولار. وأعلن الناشطون أيضاً الحرب على التجّار وأدّوا دور وزارة الاقتصاد من حيث مراقبة الأسعار وتسعيرة صرف الدولار.

أشهر المواجهات مع ممثلي السلطة المحلية كانت المواجهة الشهيرة مع المحافظ عماد اللبكي في 12 كانون الأول، حين خرج تحت ضغط الشارع من مكتبه ولم يعد إلّا بعد شهر ونصف بشروط الانتفاضة. في ذلك الوقت، مارس الناشطون ضغوطاً كبيراً على المحافظ للحصول على ملفات تخصّ بلدية حلبا المنحلّة التي هي في عهدته منذ أكثر من سنة. وحاصر المتظاهرون سراي حلبا، ودخلوا مكتب المحافظ وانتزعوا منه الملفّات، وواجهوه برخص سلاح وقّعها بدون أن ترد فيها أسماء، وأجبروه تحت الضغط على المغادرة.

وبعد حوالي شهر ونصف، عاد المحافظ إلى مكتبه بتعهّد بمكافحة الفساد والقيام بكامل واجباته. وقال الناشطون يومها إنّهم نسّقوا حصريّاً ولوحدهم مع المحافظ لأجل عودته بلا أي غطاء سياسي أو ديني أو أمني. وأعلنوا عن خطتهم المقبلة، التي تقوم على تشكيل لجنة متابعة من أعضاء من الحراك مع المحافظ لفتح ملفات الفساد بالكامل لمتابعتها بتفاصيلها بدون المرور بمركزية البلديات، كون المراكز البلدية نفسها تعاني من الفساد.

ومن المواجهات التي يفخر بها الناشطون كانت مع الجمارك على الحدود حين أغلقوا مقرّها بمشاركة ناشطي الحراك من كل مناطق عكّار. يعتبرون ذلك إنجازاً يوازي طرد المحافظ من مكتبه، الهدف منه منع إدخال منتجات سورية، يوجد مثيل لها في السوق المحلية، بما يؤدّي إلى ضرب الإنتاج المحلّي وتلف محاصيل المزارعين المحليين. يومها فرض الناشطون أنفسهم “عيناً ساهرة على الحدود“. بدأ الأمر بتحرّكات احتجاجية ضدّ دخول الشاحنات التي تحمل المحاصيل والمنتجات المهرّبة تحوّلت إلى وقف الشاحنات بأنفسهم ودفعها لتعود أدراجها. وبعدما تأكّد للناشطين أنّ مركز الجمارك لا يقوم بدوره في منع التهريب عن طريق تفتيش الشاحنات وفحص حمولتها، تداعوا من كل مجموعات الحراك، أي من حراك العبدة والجومة وحلبا، واحتشدوا أمام المركز: جزء منهم دخله والثاني بقي خارجاً يحاصره. وتوصّل الناشطون أخيراً إلى أن يتسلّم الجيش المركز بدلاً من الجمارك.

ساحة حلبا في أوج الانتفاضة

ثالثاً: المعركة ضد سلطة المصارف

أسوة بالساحات الأخرى، عرف ثوّار عكّار أنّ للمصارف سلطة توازي بجبروتها السّلطة السياسية، فرفعوا شعار “يسقط حكم المصرف”، وحمّلوا المصارف مسؤولية الدين العام، وطالبوا بتأميمها وإنشاء اقتصاد منتج. ومع ارتفاع صرخة المودعين من القيود على السحب، شنّ الناشطون الغزوات على المصارف لإعانة المودعين على تحصيل أموالهم ونجحوا في الكثير من الأحيان في إقناع المصرف في إعطاء الدولار لمن يطلبه.

إحدى الغزوات تحوّلت إلى معركة مع عناصر مكافحة الشغب، وكانت ساحتها فرع مصرف لبنان والمهجر في حلبا غير بعيد عن موقع الخيمة. كان ذلك يوم الجمعة 4 كانون الثاني 2020. يومها رفض المصرف إعطاء أحد الزبائن مبلغاً من المال كان يحتاج إليه للعلاج الطبي. وصل الخبر إلى شباب الخيمة فهبّوا هبّة رجل واحد للدفاع عن حقّ الرّجل. كان الوقت صباحاً، دخل الشباب إلى البنك وقرروا البقاء حتى تحقيق مطلبهم بمنح الرّجل ماله. ولكن في وقت لاحق ارتفع ضغط الأخير ونقل خارج المصرف للعلاج إلّا أنّ المحتجّين لم يغادروا وافترشوا الأرض حرفياً. في أحد الفيديوهات المنشورة على يوتيوب يسأل فراس خالد الذي يتوسّط الشباب الممدّدين على الأرض “خالد شو عملنا؟” فيجيب: “باقيين هون لنجيب حق الزلمي وحقوق العالم كلّياتا، هيدي السرقات ما بقا تصير عنّا نحنا هون وخلص. كل مظلوم بدّو ياخد حقه”.

إلى أن حلّ المساء وعند حوالي السادسة مساء دخل عليهم عناصر من مكافحة الشغب في محاولة لإخراجهم بالقوّة وحصل تضارب وكرّ وفرّ بين الطرفين سقط خلاله جرحى. ومع خروج الناشطين من المصرف أغلقوا الأبواب وراءهم ما اضطرّ عناصر المكافحة إلى كسر الزجاج بأعقاب أسلحتهم للخروج.

في اليوم التالي للحادثة، أوقف أول شخص في حراك حلبا هو جهاد إبرو وكانت تهمته محاولة القتل العمد لآمر فصيلة حلبا النقيب عبد العزيز دياب مع العلم أنّ جهاد كان مصاباً ويعالج في الخيمة حين أصيب النقيب بما تبيّن أنّه خدش بسيط جداً في الرأس. وأكّد المحامون والناشطون يومها أنّ كلّ الفيديوهات تثبت أنّ التهمة باطلة وبناء عليه أخلي سبيل جهاد بعد توقيفه لأكثر من عشرة أيام.

“الندهة”

حين علم الناشطون بتوقيف جهاد أعلنوا “الندهة”، كما يقولون. والندهة باللهجة المحلّية هي نفسها بالفصحى، أي أن ينده شخص صاحبه لحاجة أو أمر يحتاج العون والحشد. يلجأ إليها شباب خيمة حلبا كلّما حصل أمر يستدعي تجمّعهم ويلبّون الندهة مهما كانوا يفعلون وأينما كانوا من يوم توقيف جهاد مروراً بمساعدة المودعين على سحب أموالهم من المصارف ودخول مكتب المحافظ وصولاً إلى توقيف غيث حمّود بعد إفشال لقاء نوّاب المنطقة لجمع تبرّعات للمستشفى الحكومي.

والنّدهة مصطلح دلالي في حراك حلبا، أولاً لأنّه نظراً لكون عكّار منطقة نائية مهملة لا تأتي الدولة إلى قراها سوى في الانتخابات أو لإنشاء مكبّ كما حصل عام 2015 مع خطة إنشاء مكبّ في قرية سرار العكّارية يوم أعلن أهل المنطقة بالفم الملآن أنّ “عكّار منّا مزبلة“، يتّكل الأهالي فيها كثيراً على بعضهم البعض. ثانياً لأنّ ناشطي الخيمة تحوّلوا مع الوقت إلى مجموعة “قبضايات” يدافعون عن حقوق الناس وكلّما دقّ النفير يحتشدون وفي تجمّعهم يحققون ما يريدون. ثالثاً لأنّ شباب الخيمة متجذّرون في الثقافة المحلّية ومعظمهم لم يعش خارج المنطقة وبالتالي يستمدّون الكثير من أساليب الاحتجاج والتضامن من الثقافة المحليّة عدا عن أنّهم يتحرّكون بشكل تلقائي عندما يتعرّض واحدهم للخطر أو يحتاج للمساعدة.

يروي خالد الريّس تفاصيل “الندهة” يوم توقيف جهاد وكيف استنفر الشباب فور علمهم بالخبر. “رغم أنّ الخبر الذي ورد في البداية كان بتوقيف ‘ج. أ.’ وهو ليس اختصار اسم جهاد لأنه معروف بجهاد البقّار إلّا أننا شعرنا أنّه هو. فحكينا عَ الغروب ع واتساب إنّه لازم الكلّ يحضر ضروري” يقول خالد، ويقسم أنّ غيث جاء من بيروت خلال 20 دقيقة علماً أنّ المشوار يستغرق ساعة ونصف. ويتابع: “وصلنا إلى الساحة ودفقوا الشباب. وبدأنا إشعال الدواليب ورميها أمام السراي حيث المخفر لاعتقادنا أنّ جهاد موقوف هناك وكنّا في حالة غضب هستيري لدرجة أنّ النقيب في المخفر والعناصر صاروا يتسابقون لإخبارنا أنّ جهاد ليس لديهم. لم يهن علينا أن يُخطف واحد منّا والدولة هي التي تخطفه”. يقاطعه فراس: “أنا هيدا الدولاب اللي بيشعل وبيتدحرج شايفه بس بالسينما”. ويتابع خالد: “في حالة غضب الشارع أوّل ما تريدين رؤيته هو نيران مشتعلة”. وفي غضون دقائق كانت حلبا مضاءة بفعل نيران الدواليب. وبعد ثلاثة أيام هطل المطر وسال أسودَ بسبب آثار إحراق الدواليب وجدران السراي حتى الآن ما زالت سوداء. يتابع خالد “الدرك حبسوا أنفسهم في الداخل وهم يرون كميّة الغضب في الشارع”. يقاطعه غيث “جهاد ما كان عنده عيلة تشيل فيه. ميتين أهله، خالته مربّيته، مكتوم القيد. يعني حرفياً ما إله غيرنا”. ويتابع خالد “كلّنا فقرا ع فكرة، أغلب الشباب لا أب لا أم، كلّه مشرّد وبرقبتك، خلقنا بالشارع ومنعرف شو يعني الشارع”. وهنا يسترسل الشباب الثلاثة في الحديث عن كيفية توطّد علاقتهم ببعضهم البعض والثقة التي بنوها تجاه بعضهم وكيف “بيحطّ واحدهم دمّه قدّام الآخر”.

يوم “ندهة” جهاد، لم يهدأ غضب الناشطين إلّا حين تأكّدوا أنّ رفيقهم ليس في المخفر وأنّه نقل إلى طرابلس.

الناشطون أمام خيمتهم

“الهيبة”: ناشطون يتحوّلون إلى حماة حقوق

هذه المواجهات والمعارك التي خاضها الناشطون، منحتهم حيثية في محيطهم ومكانة وهيبة جعلتهم أوّلاً قادرين على إغلاق الطريق كلّما أرادوا ومع مشاكل قليلة مع الناس، وثانياً جعلت الناس يطلبونهم لحلّ مشاكلهم أو يهددون بهم “بدّي ابعت عليك الثوّار” وجعلت مجرّد دخولهم إلى متجر أو محلّ صيرفة للسؤال عن أسعار الدولار يجعل صاحب المحلّ يخاف ويخفّض أسعاره. يروي غيث أن “صرنا نسمع أخبار بالشارع عن ناس عم تهدّد باسمنا نحنا والله بجيب عليك الثوار، بيروح عالبنك بجيب عليك الثوار، بيروح ع مكتب شي دايرة بجيب عليك الثوار”.

يتابع غيث “ما نزلنا وحاطّين براسنا هيدا الشي بس وقت الناس أخدوا انطباع انّه هودي (نحنا) عم يعملوا شي الدولة ما قادرة تعملو صاروا يجوا يقصدونا. يعني إذا راح عند المخفر قلّو البنك ما عم يسحّبني مصريّاتي رح يقلّه روح قدّم شكوى، أما نحنا فرح نروح نجبلو مصريّاته”.

يضيف خالد “كنّا نزايد ع صاحب الحق، يعني أوقات يتعب من النطرة أو يقول ما بدّي مشاكل مع حدا بس نحنا ما نقبل ونروح للأخير”. ويتابع “الصدامات مع الدوّلة قوّتلنا هيبتنا عند العالم. ووحدتنا، يعني حين يحصل أي شيء مع أي منّا يهبّ الباقون لنصرته”.

حتى أنّ البعض طلبهم لمساعدتهم في تحصيل حقوق في نزاعات عائلية كالطلاق ونزاعات على أراضي، “في ناس ما بتروح عالمخفر بتجي تتشكّى عنّا”، يقول غيث.

أضافت الخيمة المنصوبة وسط الساحة منذ بداية الانتفاضة حتى اليوم واستمرار تواجد الناشطين فيها بشكل مستمرّ أيضاً إلى هذه الحيثية حيث أصبحت مقرّاً للأهالي من المنطقة لعرض مطالبهم: مكتومو القيد حضروا للشكوى من عدم حلّ قضيّتهم بعد استثنائهم من مرسوم التجنيس عام 1994، الطلاب حضروا للمطالبة بفروع للجامعة الوطنية في المحافظة، وغيرهم. وبالتالي ليس من السّهل إزالة الخيمة كما حصل في مناطق أخرى لأنّ ذلك برأي الشباب سيثير فتنة. يقول فراس صحيح أنّ الحراك شكّل مصدر قلق للسلطة فحورب كثيراً على الصعيد المحلّي وبشتّى الطرق (الضغط على أهالي الشباب لإقناعهم بفض الاعتصام، الرشوة المالية، التوقيفات، تركيب ملفّات، مقالات في الصحف تتهم الحراك بأنه للشيوعيين والقوميين لأن الحزبين ينفّران الشارع، إرسال مخبرين إلى الخيمة)، إلّا أنّ مكانتهم كحماة الحقوق والعلاقة الوثيقة التي نسجوها مع محيط الخيمة شكّلت لهم منطقة آمنة تحميهم ويحمونها. ويتابع “بما أنّه لم يسبق أن وقف أحد في وجه السّلطة قبل الآن في عكّار، حين وقفنا نحن ضدّ السلطة كان محيط الخيمة معنا ولم يشعر أنّه مستضعف وبالتالي وقف إلى جانبنا ولم يحاربنا حتى حين سقط الحريري لأننا كنّا واضحين أننا ضد كلّ الطبقة السياسية”. 

 

ماذا تحقق؟

اليوم، بعد مرور عام على انتفاضة 17 تشرين تخيّم على النّاس أجواء من الإحباط نتيجة التدهور السريع الذي نشهده على جميع الصّعد وشعورهم أكثر من أي وقت مضى بأنّ لا حول ولا قوّة لهم، يشعر الناشطون بشكل عام بإحباط مضاعف لأنّهم بذلوا جهوداً كبيرة ولأنّ الناس حين احتشدت كثيراً معهم في البداية أشعرتهم بحماسة عالية رفعت سقف توقّعاتهم، فيما الواقع أنّ الأمور في البلد كانت تتخذ المنحى الانحداري وكان واضحاً أنّ لا شيء قادر على وقفها.

يرفض خالد القول إنّ الحراك في عكّار أو الثورة بشكل عام لم يحققا شيئاً “كيف لا وأنت في السابق حين كنتِ تدخلين إلى الماليّة كنت تدفعين الرقم المرقوم لإنجاز أي معاملة، اليوم لم يعد الأمر كذلك. فملفّك الذي كان نائماً في الأدراج زهاء 15 سنة وكان عليك أن تدفعي بلاوي عليه لإخراجه أصبحت اليوم تذهبين إلى المالية ولا تكادين تطلبينه حتى يأتون به إليك”. 

يعرّج الشباب على الحراك الطلّابي الذي يفتخرون به نظراً إلى تنظيمه الملفت ونفسه الطويل. كانت المبادرة من ثانوية حلبا حيث تواصل الطلّاب مع الثانويات الأخرى وبدأ التنسيق فيما بينهم إلى أن أصبحوا شبكة من حوالي 100 مدرسة بينها أكثر من 70 ثانوية. شارك الطلاب مع شباب الخيمة في فرض التسكير على المدارس ونظّموا العديد من المسيرات والإضرابات حيث رفعوا مطالب الثورة ومطالبهم بمجانية التعليم وتحسينه وبكتاب موحّد للتاريخ وبفتح فروع للجامعة اللبنانية في عكار. واستمرّت تحرّكات الطلاب إلى حين إعادة فتح المدارس حيث عادوا تدريجياً إلى مقاعد الدراسة ولكنّهم لوقت لا بأس به قبل الإغلاق بسبب كورونا، استمرّوا في النزول إلى الخيمة في أوقات الفراغ وفي أيام العطل.

وبالنسبة لغيث فإنّه “بغض النظر عن المعارك التي خضناها، في شي كتير حلو عم بيصير وهو إنّه بس تمرق بوسطة تلاميذ أو سيارة فيها ولاد قدام الخيمة بيصيروا يهتفوا ثورة ثورة. يعني لما تكوني عم تتركي أثر عند الولاد هلقد يعني إنت عملتي شي منيح وتركتي بذرة منيحة”.

لعلّ هذا هو التراكم الذي يريده شباب خيمة اعتصام حلبا الذين بدأوا 20 شاباً وانتهوا 20 شاباً كما يقولون بعد أن نزل معهم المئات في الأيام الأولى، لعلّ التراكم ليس بالعدد بل بانتقال أفكارهم إلى الأجيال اللاحقة.

ولكن نفس النّاس لم يكن طويلاً كنفس الطلّاب، على ما يقول غيث، خصوصاً في ما خصّ مواصلة المعارك ضد الفساد حتى النهاية ودعمهم الذي كان يمكن أن يحقق المعجزات كان ضئيلاً: “حين أخرجنا الملفّات من مركز المحافظة لم يكن هناك حماسة كافية فأهالي حلبا التي كنا نريد الحصول على ملفات بلديتها لكشف الفساد أخذوا يهاجموننا بدلاً من الوقوف إلى جانبنا، واتهمونا بأننا قبضنا لإخراج المحافظ ولاحقاً لإعادته. قررت نشر الملفات وهي عبارة عن قرارات بلدية على صفحة الخيمة ولكن أحداً لم يتحرّك”.

يعتبر فراس: “أنّه من يوم مشكل النوّاب بلّشت التحوّلات الكبيرة لأنّ الناس رجعت على كرتونة الإعاشة”، في إشارة إلى الوضع المعيشي الذي ازداد سوءاً دافعاً بالناس إلى حضن أحزابها التي أعلنت نفسها المخلّص من الجوع الدور الأحب على قلبها في المناطق المحرومة وفي الأزمات. كان حراك عكّار مرشحاً ليكون انتفاضة أطراف نموذجية فالعناصر الأساسية جاهزة: أناس لا يخشون الخسارة لأنهم خسروا كلّ شيء أو بعبارة أفضل حرموا من كلّ شيء، ولكن شبكة المصالح المنيعة المتداخلة القائمة على الاعتبارات العائلية والعشائرية والمذهبية والسياسية وأحياناً الشخصية، أكبر من قدرتهم على الحشد والتعبئة.

عام 2015 حين أرادت السّلطة إنشاء مكبّ في بلدة سرار، وقف غيث وفراس ومجموعة من الناشطين والناشطات في وجه المشروع وأفشلوه، وفي انتفاضة تشرين وقفوا أيضاً في وجه السّلطة بشتّى أشكالها وهزّوا هيكل الزعامات المحلّية ودقّوا المسمار الأوّل في نعش منظومة الفساد التي أكلت حقّ أهل عكّار في الإنماء. لم يحققوا التغيير الملموس ولم يجدوا الدّعم من الأهالي والذي كان بإمكانه أن يحقق لهم المعجزات وكما قالوا “بلّشنا 20 شاب وانتهينا 20 شاب”، ولكن حين يمرّ تلامذة أمام الخيمة ويهتفون “ثورة! ثورة!” يدرك غيث ورفاقه أنّ جهودهم لم تذهب سدى وأنها ترسم أفقاً أجمل لأجيال الغد. صحيح أنّ وقت عكّار انتهى على شاشة البث المباشر ولكنّه ربّما بدأ للتوّ.

**

“أنا نقطة الشتي أنا حبّة القمح جايي إنْزِرِع بأرْضي بِصْدُور النّاس اللي هوْن وْبكرا زَرعنا بيِطلع”