السبت، نيسان/أبريل 27، 2024

"نشات زبداوي في موقع ١٨٠ بوست: "مقتلة غزة.. الإبادة الجماعية الأكثر رعباً في التاريخ

  نشات زبداوي
رأي
"ليس الحاضر مجرّد محطّةٍ انتقاليّة بين الماضي والمستقبل؛ بل هو وحدة الاثنين" (مارتن هايدغر «الكينونة والزمان»)


إنّ الحرب حكاية جغرافيّةٍ متحرّكة، كلّما كان الدافع السياسيّ لها توسّعيًّا، ازداد المجتمع انعزاليّةً، اقتلاعيّةً وإقصائيّةً (فالأبارتايد عقيدةٌ بيروقراطيّةٌ وتقليدٌ مجتمعيٌّ) وإحدى الحلقات التمهيدية للوصول إلى الإبادة الجماعية.

إن حجم التضليل والخداع اللذان يمارسان من قبل الحكومات الغربية ووسائل إعلامهم من خلال استخدام القانون الدولي في الترويج الممنهج لـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، يُعدُّ أكبر عملية تزوير من قبل تلك الدول”المتحضرة”، بسبب معرفتها أن هذا المبدأ القانوني لا ينطبق على إسرائيل كونها دولة احتلال؛ وحتى لو تأكّد أن لإسرائيل حقها في الدفاع عن النفس، فإن المادة 51 من هذا القانون تُقيّد هذا الحق بأن يكون متناسباً وطبيعة “الإعتداء”.

إن تلك المزاعم ما هي إلا محاولات بائسة ويائسة لتقديم إسرائيل ضحيةً باستخدام القانون الدولي، للتغطية على الإبادة الجماعية التي تُمارس بحق الشعب الفلسطيني من قبل هذا الكيان الإستعماري الإحلالي الإستيطاني العنصري الوحيد المتبقي في العالم.

الإبادة الجماعية.. حالة غزّة

وعلى الرغم من السجال القائم حول كيفية تعريف ما يجري بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي وإصرار دول عالم الشمال على عدم إدانة إسرائيل بشكل واضح بإرتكاب إبادة جماعية ممنهجة بحق أصحاب الأرض، بل على العكس يجهدون في البحث عن تبريرات لما يرتكبه جيش الاحتلال من مجازر همجية متواصلة بحق هذا الشعب “رد فعل عنيف، حق الدفاع عن النفس، أضرار جانبية، قتلى نتيجة الحرب، إلخ” بالتزامن مع تمنيات “إنسانية” من قبل “العالم المتحضر” بعدم استهداف المشافي والمدارس والجامعات ومراكز الإيواء والفرق الطبية، والصحفيين، إلا أن كل تلك التبريرات والتمنيات لن تغيّر حقيقة ما يجري من إبادة جماعية ممنهجة بحق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والتي بدأت فعلياً وبشكل ممنهج منذ 17 عشر عاماً، وما نشهده اليوم، أي (منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023) ما هو إلا أحد أطوارها الهمجية وأكثرها دموية ووحشية وذلك ليس من منطلق التعاطف مع الشعب المضطهد، بل وفق تعريفات الرجل الأبيض نفسه، فوثيقة “أركان الجرائم” التابعة لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تفيد أن أفعال الإبادة الجماعية هي القتل وإلحاق الأذى البدني أو المعنوي الجسيم، لجماعة معينة من الناس وفرض أحوال معيشية عليهم تسبب عمداً في إهلاك مادي وتهجير قسري.. الخ.

ومَنْ يطّلع على مصطلح الإبادة الجماعية القانوني الذي صاغه المحامي البولندي (ليمكين) عام 1944، يرى أنّ المصطلح ينطبق تماماً على نكبة الشعب الفلسطيني وكأنه صُمّم خصيصاً للدلالة عليها، فهو يعني وجود خطة مُنسَّقة غير معلنة تتجسد من خلال أفعال متعددة بهدف تدمير الأسس الجوهرية لحياة جماعة معينة من الناس، وذلك عبر تدمير نمط الحياة للجماعة المضطَهدة من قبل المضطهِد بهدف الإخضاع أو التهجير القسري. بالتالي أيّاً من هذه الأفعال، سواء كان القصد منها التدمير الكلي أو الجزئي لتلك الجماعة، بصرف النظر عن كمية المجازر وعدد القتلى، تندرج تحت عنوان جرائم الإبادة الجماعية.

الإبادة.. أعلى مراتب الجريمة

الإبادة هي فعل سياسي بالدرجة الأولى، غايته الشروع في القتل الممنهج والمتواصل، لذلك نقول إن الإبادة الجماعية هي جريمة الجرائم؛ هي أعلى مراتب الجريمة. وفي هذا السياق، فإن الإبادة الجماعية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في غزة لم تبدأ في السابع من تشرين الأول/أكتوبر2023 بل بدأت منذ 17 عاماً اي منذ أن بدأ حصار قطاع غزة، عبر سياسة تقويض حياة الناس واعادة انتاجها بكل أشكالها، ليس على المستوى الحياتي المعيشي اليومي فحسب، لا بل على المستوى الفكري والثقافي والبيولوجي.

إن سياسة التقويض التي تمارسها إسرائيل أمام أعين العالم “المتحضر” تطال كافة جوانب حياة الفلسطينيين، من خلال الرقابة الشديدة والإطباق المباشر على حياة الناس اليومية، ما يجعلهم رهينة حصار جغرافي إقتصادي بمعنى السيادة على عملية تقرير أشكال وأنماط ميادين التطور الإنساني في تلك البقعة الجغرافية. هناك أولاً البعد البيولوجي، “أي عملية التحكم والتقنين على ما يدخل من غذاء لهذا الجمع من الناس وهذا ما يعرف بالحرب البيولوجية التي تتضمن آليات التحكم بكمية الغذاء التي تدخل إلى أجساد الأفراد المكونة للمجتمع”.

إذاً، نحن أمام حصار جغرافي (حركي)، اقتصادي (إنمائي)، غذائي (إنجابي) وأضف الى هذه الأبعاد الثلاثة لعملية الإبادة الجماعية وبشكل موازٍ لها، فعل القتل المباشر من حين لآخر – مع ضرورة الإشارة إلى أن غزة تتعرض للحرب العدوانية الثامنة على التوالي – والذي له أساليب ووجوه متعددة منها الإعتقال، وهو شكل من أشكال الضبط الجسدي المباشر، وهذا وجه من أوجه القتل.

ثانياً؛ أسلوب القتل المباشر بذرائع مختلفة، منها مجرد الشك أو الاشتباه أو الإحساس بالخطر.

ثالثاً؛ أسلوب القتل من خلال الصناعات العسكرية المتطورة والتي تمنح القاتل ميزة القتل بعيداً عن مسرح الجريمة وهذه من السياسات المتبعة لدى النظام الرأسمالي حول كيفية الإجهاز على جمع معين من الناس دون الحاجة إلى الإحتكاك المباشر معهم، وهذا يُفسر طبيعة القصف الوحشي غير المسبوق الذي يتعرض له قطاع غزة اليوم، ولهذا النمط من أساليب القتل الجماعي خلفية أيدولوجية أيضاً تستند في جوهرها إلى مسألة التفوق العرقي والإنساني على الآخرين، وبالتالي ممارسة هذا النوع من الجرائم لا يجب أن تكون من خلال مسرح ندي، لا بد أن يجري فعل القتل الجماعي عن بعد، مثلما تُباد أجناس مختلفة من الحيوانات. وفي حالة إسرائيل مرة أخرى، كانت هناك دعوات علنية من قبل وزراء في حكومة الكيان للتعامل مع الفلسطينيين كحيوانات، دون أي إدانات تُذكر على الإطلاق من أية جهة حكومية من دول عالم الشمال “المتحضر”!

لا تقتصر الإبادة على كل تلك الأبعاد والتي غالباً ما تأتي متعاقبة وعلى مراحل، ففي حالة غزة تأتي كلها دفعة واحدة ولكن بصيغة ديمومة يضاف إليها عنصر المشهد (النقل المباشرة لمشهدية القتل الجماعي منذ العام 2006 لغاية الآن) ما يجعلها من أكثر الإبادات الجماعية عبر التاريخ رعباً وذهولاً.

ثمة تلفزة للإبادة الجماعية بكافة تفاصيلها والدعوات العلنية لاستمرارها تحمل في طياتها تهديداً مباشراً لكل شعوب عالم الجنوب لكي تحتاط من الشروع في تنظيم وبناء هوية متمردة عابرة لأي منطق إثني أو عرقي أو طائفي على أسس سياسية مناهضة للاستعمار ولكل أدواته، بأنه سوف يُواجَه بإبادة جماعية على غرار ما يجري اليوم بحق الشعب الفلسطيني.

المصدر: https://180post.com/archives/42739 

 

الجزء الثاني:

إنّ الحرب حكاية جغرافيّةٍ متحرّكة، كلّما كان الدافع السياسيّ لها توسّعيًّا، ازداد المجتمع انعزاليّةً، اقتلاعيّةً وإقصائيّةً (فالأبارتايد عقيدةٌ بيروقراطيّةٌ وتقليدٌ مجتمعيٌّ) وإحدى الحلقات التمهيدية للوصول إلى الإبادة الجماعية.

غداة حرب غزة شهد العالم نقاشاً غير مسبوق تناول جوانب عديدة، سياسية وعسكرية وإنسانية وقانونية وأخلاقية، وبلغة لا تخلو بدورها من سجالات حقيقية حول المصطلحات وكيفية فهمها واستخدامها ليتكشّف لنا حجم الإنحيار الدولي لمصلحة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” على حساب سردية الشعب الفلسطيني وحقه المشروع في مقاومة المحتل، وفق الدساتير والمواثيق والشرائع الدولية كافة.

إن إصرار حكومات عالم الشمال على عدم إدانة إسرائيل بارتكابها إبادة جماعية بحق الفلسطينين، بالرغم من التغيير الملحوظ في مزاج الشارع الغربي والأوروبي على وجه الخصوص، نتيجة هول المشهد الذي يتابعونه يومياً عبر وسائل الإعلام، مرده الحرص الدؤوب لتلك الحكومات لمنع فك إرتهان مصطلح الإبادة الجماعية حصراً لمصلحة مصطلح الهولوكوست (الإطار النظري والمثل المُحتذى به في تحديد معنى الإبادة الجماعية لدى عالم الشمال)، هذا من ناحية أولى.

من ناحية أخرى؛ ثمة سعي غربي دؤوب لتثبيت شرعية الكيان الإسرائيلي وحقه في الوجود والدفاع عن نفسه، وذلك بهدف الحيلولة دون أي نقاش لاحق للأجيال القادمة في المجتمعات الأوروبية، من شأنه أن يكشف حقيقة ضلوع دولهم تاريخياً بالتواطؤ مع الحركة الصهيونية في تهجير اليهود من القارة الأوروبية إلى الأرض العربية الفلسطينية بإدعاء شهير (شعب بلا أرض، وأرض بلا شعب) متذرعين بأساطير دينية حول أرض الميعاد وهيكل سليمان؛ كل ذلك بهدف تأسيس كيان خاص بهم يفصل شرق الأرض العربية عن مغربها، قائم على الاحتلال والاستيطان والعنصرية بحق أصحاب الأرض، فتتحول كل القيم الإنسانية والأخلاقية والحقوقية والقانونية التي يعتبرون أنفسهم رواداً لها في خدمة القاتل ودفاعاً عنه في وجه الضحية.

وما أعمال القمع والترهيب التي تشهدها اليوم معظم الشوارع الأوروبية والغربية وفي مؤسساتها العلمية والاجتماعية والاعلامية والتربوية والسياسية بحق كل من يناصر فلسطين وقضيتها إلا خير دليل على مدى نازية وفاشية الرجل الأبيض ونظرته الفوقية لشعوب عالم الجنوب وقضاياهم وليتكشف لنا أن الحرية والديموقراطية الإجتماعية وحقوق الإنسان وُجدت فقط في خدمة الرجل الأبيض دون غيره، فالمسؤول عن هذه الإبادة الجماعية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني بالدرجة الأولى هو دول عالم الشمال وعلى وجه الخصوص الثعالب الأوروبية التي فعلت ما فعلت بحق شعوب العالم ولا سيما بحق يهود أوروبا، وتأتي مسؤولية إسرائيل في الدرجة الثانية ككيان وظيفي، وكونها تخوض مواجهة على مستوى الكينونة في ذاتها، ومن ناحية أخرى، تواجه مشكلة لها علاقة بإعادة إنتاج هويتها الإسرائيلية الآخذة بالإنهيار والتلاشي.

إستناداً إلى ذلك، تغدو الإبادة الجماعية التي نُشاهدها اليوم إبادة الرجل الأبيض بحق شعوب عالم الجنوب ليس على المستوى الإنساني والأخلاقي والثقافي فحسب، بل على المستوى السياسي والأيديولوجي أيضاً. فعزوف هذه الدول عن لعب دورها في إيقاف هذه الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني وعدم الالتهاء بالبحث عن هدن “إنسانية”، الغاية منها مزيد من الضوضاء للتغطية على سردية الإبادة الجماعية المستمرة. هذه السياسة المُقنّعة لتلك الدول تُخفي بعداً أيدولوجياً يوجب ضرورة إبادة أي جمع من الناس من شعوب دول عالم الجنوب فيما لو قرر أحدهم عصيان أوامر إعادة بناء الكيانات الكومبرادورية، وإعادة بناء كيانات سياسية تعمل ضمن منطق البيدق للقوة الإقليمية النافذة، وهذا كان الخطأ الفادح الذي ارتكبته حركة حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

إن حركة حماس على المستوى الأيديولوجي لا تُمثل نقيضاً لنموذج التبعية السائد في عالم الجنوب كسائر الحركات الدينية، ولكن حصل ذلك نتيجة فعل مكونات الإبادة الجماعية السارية منذ العام 2007 بحق الفلسطينين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ما دفع بهذه الحركة المقاومة للقيام برد فعل غير متوقع من حيث التخطيط والتنظيم والإعداد، بعيداً عن كون هذا الفعل مدروساً أو غير مدروس، ولكنها قامت بفعلٍ مقاومٍ أخرجها من معادلة التبعية، وهذا النصر الإلهي الوحيد الذي حدث، كونها عوّلت على نصير إقليمي خانها بدوره، وفي خضم هذه الخيانة أُعتقت حماس من وِزر هذه التبعية الإقليمية التي هي أحد قواعد وشروط السماح لاستمرارية وجود معارضة (مقاومة) لجمع معين من الناس، وفقاً لمنطق الرجل الأبيض.

في الخلاصة، هذا ما يجعل الإبادة الجماعية التي تحصل في غزة مختلفة عن أشكال أخرى من الإبادات التي حصلت في التاريخ، كونها ليست موجهة نحو جمع هوياتي إنعزالي معين، إنما هي موجهة نحو سلوكيات التمرد، ولهذا في بادئ الأمر كانت الحرب ضد جنين وتُرجمت في أدواتها الاستئصالية الهمجية الدموية ضد قطاع غزة. نعم، إنها إبادة ضد عملية تهدف إلى بلورة هوية سياسية تُعرّف نفسها في الأساس من موقعها النقيض ضد سياسات الإنبطاح الإستعماري، سواء بنماذجها الإقليمية الجديدة أو النماذج الإمبريالية القديمة.

المصدر: https://180post.com/archives/42750