الأحد، نيسان/أبريل 28، 2024

لسنا رعايا طوائف ولا أهل ذمّة

Published in لبنان

بلغت عملية الاستشارات النيابية، التي كانت مقرّرة الاثنين الماضي، والتي تأجّلت مجدداً لفترة أسبوع، مرحلة خطيرة، ليس بمفاعيلها أو بسبب عدم إجرائها، بل لكونها دخلت، وبقوّة، في مهبّ المحاصّة الطائفية وبزار المزايدات المذهبية. وفي تطور مريب توقيتاً وشكلاً، خرجت من دار الفتوى تسمية مرشح لتأليف الحكومة بعينه، ضاربة بذلك عرض الحائط، بالدستور والطائف وبكل الأعراف، حتى ولو كانت شكلية، وواضعة، في الوقت نفسه، الحرم المذهبي على أي ترشيح آخر. إنّ هذا الأمر، ما هو إلّا استكمال للمنطق المتداول منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، والقائم على مقولة "الأقوى في طائفته"، أي بمعنى أدق تحالف الأقوياء في طوائفهم وليس أيّ أحد آخر. وفي السياق ذاته، يندرج ما جاء به كلام مطران بيروت، حول التلميح، والذي هو أوضح من التصريح، بحقّ مكوّن سياسي في لبنان ومن زاوية استقدام عامل السلاح كمحدّد للثقل السياسي، والردود على تلك التصريحات، السياسية منها أو من المرجعيات الدينية، يُضاف إليهما السجال الحاصل حول أحقيّة القانون الكنسي على القانون المدني في قضايا، هي من صلب القانون الجزائي، وبخاصة أن القضية المشار إليها هي قضية تحرش بأطفال قصّار. وإذا أضفنا إلى تلك الأمور المذكورة تصاعد الخطاب الطائفي، الذي يستبطن إشاعة جوٍّ من إعادة الفرز في الشارع، فإن ذلك يعني، بأنّ الأوضاع في الأيام القادمة ستشهد على الأسوأ، وبأن القوى المتحكمة في القرار السياسي لجأت إلى سلاحها القاتل، وذلك من خلال استقدام الطوائف وجمهور المذاهب إلى ساحة المواجهة، تثقيلاً لمواقفها في عملية التفاوض في ما بينها، أو تصويباً عليهم أو على من سيكون معهم. إنّ هذا الأمر ينبئ بتصاعد الانقسام العمودي، وإعادة البلد إلى ساحات طوائفه ومذاهبه، بعدما أسقطت الانتفاضة الشعبية المتواصلة منذ أكثر من خمسين يوماً تلك الحالة، وأسّست لنمطٍ جديدٍ من الاعتراض، قائم على أساس القضايا والمطالب. وعليه فإنّ الأمور ستتّجه في الأيام القادمة إلى المزيد من التوتّر ربطاً بتلك المستجدات، وستشهد الساحات السياسية المزيد من الخطابات المزايدة في الحرص على حقوق الطوائف وزعاماتها، والتي ستكون دوماً تحت مسمّيات العيش المشترك. وعليه فإنّ الأمور ستذهب، من جانب قوى السلطة، نحو إيجاد المخرج الذي يثبّت هذه الحالة ويقوننها بطريقة ما للسير فيها. وستشهد الأيام والساعات القادمة المزيد من التشاور بين أطرافها، بهدف إبقاء الحالة الطائفية على ما هي عليه. من هنا نرى، بأنّ استخدام عامل الدين واستقدامه من قبل أصحاب الغبطة والسماحة والنيافة والفضيلة إلى مسرح الأحداث، مشاركين أو محرّضين، متّخذين المواقف إلى جانب مشاريع سياسية أو أطراف بعينها، ومسخّرين كل ما لديهم من إمكانيات ووسائل، ومستنفرين كل عدتهم وعديدهم للقضاء على أي أمل، ولو كان مفترضاً بإحداث تغيير سياسي أو اجتماعي، سيكون له الأثر الأكبر في منع البلد من الانتقال من دولة المزارع والرعايا إلى دولة وطنية مدنية يشعر فيها المواطن بالانتماء، وينال حقوقه المدنية والسياسية والاجتماعية. ليس أمام جمهور الشعب اللبناني، الرافض لكل تلك الممارسات والسياسات والسلوكيات التي خرج من أجلها إلى الشارع ولا يزال، إلّا الاستمرار في تلك المواجهة. فأيّ عملية تراجع اليوم ستُعطي للمنظومة الحاكمة مشروعية سياسية افتقدتها طوال هذه الفترة؛ فنزعُ الصفة الدستورية عن تلك المنظومة إجراءٌ يجب اللجوء إليه. لقد صادرت دورُ الطوائف وصروحها أدوارَ المجالس الرسمية ونصّبت نفسها في المكان الذي يقرّر من يكون الرئيس ومن هو المسؤول، وحرّمت ذلك وحلّلت ذاك. لقد سقط الطائف بشكلٍ نهائي، وما إكرام الميت إلّا دفنه، لذلك فلتكن الدعوة وبوضوح، إلى إنهاء هذا النظام السياسي القائم على المحاصّة الطائفية، ولإعادة تشكيل السلطة السياسية من جديد وعلى أساس مختلف، يمنع التدخلات فيها الداخلية منها أو الخارجية، من خلال كسر القيد الطائفي. وعلى ذلك فإن الإشهار بذلك الموقف يجب أن يكون في كل الساحات، صوتاً وقولاً وفعلاً واحداً. بالإضافة إلى العمل وبشكلٍ جاد لإنضاج مشروع سياسي بديل عن سلطة الطوائف وأمرائها. إنّ التعنّت و"الدلع" السياسي لبعض الأطراف من خلال وضع الشروط والشروط المضادة تحسيناً لموقعه، معطوف عليها استغلال دولي مشتبه فيه، هو أمر يجب التنبه له لأنه سيُدخل البلد في حالة من الفوضى الموصوفة والتي ستطيح بما تبقّى منه. وبناءً على ما تقدم، فإنّ تشخيص المشكلة ومسبّباتها وحصرها في مسبّبيها، من قوى سلطوية واقتصادية- مالية، تابعة ومرتهنة سيكون الأساس الذي سيُبنى عليه استمرار الانتفاضة وتفعيلها. إنّ وصول الوضع إلى هذا المستوى المتأزّم من التوتّر لا يُنذر إلّا باستنفار الطوائف وقواها مجتمعة لإعادة تمتين ركائز نظامها السياسي، الذي اهتزت بعض ركائزه خلال الفترة المنصرمة. إنّ الدفع باتّجاه بلورة خطاب سياسي واضح، وباتّجاه تقديم السياسي كأساس للمواجهة ربطاً بطبيعة النظام الحاكم، المتداخل فيه السياسي بالاقتصادي وبالاجتماعي من خلال الريع والفساد والمحسوبيّات وغيرها من عدة إخضاع الشعب اللبناني بلقمة عيشه ومستقبل أولاده، لدفعه إلى الولاء الأعمى، يتطلب منّا جرأة باتجاه قول الأمور بأسمائها، من دون أي اعتبار لأي قضية، وطرح ذلك على كل من يشاركنا الرأي لنسير معاً في هذا الاتجاه؛ فالمسؤولية الكاملة في كل ما وصلنا إليه تتحمله، إذن، المنظومة السياسية بأدائها وسياساتها الاقتصادية، المفرطة في الليبرالية، المعتمدة على الاستدانة وبفوائد عالية جداً من دون ربطها بمقتضيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتي في صلبها ومعها، بلغ الفساد مستويات غير مسبوقة. لقد أصبحت هذه المعادلة التي حكمت لبنان منذ الطائف وحتى اليوم خطراً واقعاً على البلاد والنظام، هذا ما يشكل المقدمة لولادة وعي جديد لدى فئات اجتماعية واسعة، يقوم على ضرورة تغيير عميق في بنية الاقتصاد اللبناني باتّجاه تحويله إلى اقتصادٍ منتج، واستعادة أو إنتاج دور وظيفي ربطاً بحاجات الإقليم، وهذا سيشكل أساساً لتحالف واسع. ومن المفيد الإشارة هنا، بأنّ على الانتفاضة الشعبية إدراك هذه الضرورة، كي تتحول، من حالة الاحتجاج إلى مشروع سلطة وإلى اجتراح مخرج حقيقي وتاريخي لأزمة لبنان البنيوية والمتجذرة منذ نشأة الكيان. إنّ تعقيدات الداخل وتطورات الخارج، وبالتّحديد ما يجري في المنطقة، تربك الحسابات المتناقضة لقوى السلطة وتبدّل منطلقاتها. فأي من تلك المنطلقات يمكنها أن تشكل قاعدة اتفاق في ما بينها؟ لا أحسب أنّ ثمة جواباً حاسماً عن هذا السؤال عند أيّ فريقٍ من أفرقاء معادلة التسوية الأخيرة. فجميعهم ينظرون إلى الموضوع من زاوية التركيبة الداخلية للنظام السياسي، وهنا، بالنسبة إليهم، الرؤية أكثر وضوحاً؛ فهناك مصالح مشتركة يمكن أنْ تشكّل قاعدةَ أمانٍ لحكمٍ، أطرافه راضون عنه، وعلى ذلك هم فريق واحد. وأيضاً ينظرون من زاوية قضايا المنطقة، وبالتحديد المرتبطة منها بالصراع الدائر وحسابات أطرافه، وهنا تبدو الرؤية مغشاة حدّ العمى، وبذلك يتكوّن الانفصام الواضح في الخطاب السياسي لتلك المنظومة السياسية والاقتصادية-المالية. فبين التحذير، من قبل بعض أطراف السلطة، من التدخلات الغربية على خطّ الانتفاضة ومن خلال قوى سلطوية، وبين النقاش في الشأن الداخلي الدائر اليوم حول كيفية إعادة إنتاج التسوية التي كانت قائمة والاستماتة في إعادتها بهدف إعادة تثبيت السلطة، يكمن التناقض الأساس، ما جعل خطة التشويش على الشيء الإيجابي المحقق اليوم في الشارع، تكون من خلال التشكيك والتخوين واستدراج التوتر المذهبي والطائفي والمناطقي وهذا ما يحصل اليوم. إنّ ذلك يتطلب بناء النقيض، والذي لا يجب أن يكون محلّ مراوحة أو محطّ استمهال، بل أن يتقدّم، وبمشروع واضح يقدم نفسه من خلاله؛ مشروع يجسّد تطلعات الشعب اللبناني المنتفض في كل الساحات وآماله في بناء وطن على قدر التضحيات التي قُدمت. هناك خطوات جدّية في هذا الاتجاه: الصمود في الساحات هو مطلوب، الوضوح في الموقف هو أساس، والبرنامج السياسي للخروج من الأزمة يجب أن يُعلن ومن أصحابه الحقيقيين، والذين هم في الشوارع منذ أكثر من خمسين يوماً. في النهاية، ولأخذ العلم فقط، نحن مواطنون ولسنا رعايا طوائف ومذاهب وأهل ذمّة عند من يصادرون أمر السماء وأمر الأرض.
Read more...

السابع عشر من تشرين: نحو حركة طلابية ثورية

Published in متفرقات

لقد قالها الطلاب "يا بيروت شدي الحيل تنسقِّط رأس المال". تصدّع جدار البنية الطائفية في السابع عشر من تشرين الأول. كانت تلك الليلة نقطة تحول أولى لا رجعة عنها في تاريخ لبنان المعاصر. كانت شرارة تحوّل في الحسّ الطبقي المدفون تحت رمضاء الطائفية السياسية. وأمّا نقطة التحول الثانية كانت بين 20 و22 من الشهر عينه بين خطاب الأمين العام لحزب الله واستقالة الحريري من جهة والاعتداء الذي قاده المنطق الإقصائي الهمجي لشبيحة الأحزاب الطائفية من جهة أخرى. تجلّت معالم المواجهة المفتوحة بين أذرع الترهيب للدولة الطائفية الريعية وبين شعب هذه الأرض. أي أنّ تناقضات البنية باتت بينة لا تقبل التأويل: الدولة – أداة قمعية تتّكئ على عماد الهيمنة الدينية والاقتصاد التبعي مقابل شعب – أهل الأرض من المواطنين واللاجئين والعمال المهاجرين الذين قرروا الخروج عن صمتهم. أبناء شعبنا من الطلاب والشباب والعمال والعاطلين عن العمل رابطوا في الساحات رغم طبول القمع المفتوحة عليهم ليكون فعلهم إعلاناً صريحاً بأنّ المواجهة قائمة والمسؤولية تاريخية. لكنّ التاريخ صيرورة. لم ينفجر الغضب الشعبي في هذه الأيام مصادفة فقد أتى تشريننا هذا بعد سنة حافلة بالاحتجاحات، بدأت بإضراب المعلمين فحراك طلاب الجامعة اللبنانية الذي انبثق عنه  تشكيلات طلابية اتّخذت لنفسها موقع النقيض من البنية الطائفية. وقد توجت التحركات مع حراك المخيمات الفلسطينية الذي امتدّ على مدار تسعة أسابيع والذي عكّر صفو المفاهيم المعلبة للأنا والآخر في مجتمع تمزقه الهويات المجتزأة. تظاهر سكان المخيم (من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين) باسم العمل والعمال ضدّ البنية القانونية اللبنانية لما فيها من تكريس للريع والعنصرية والزبائنية والعزل والإقصاء. انتفضت المخيمات ضد بنية النظام القانونية تلك عينها التي تعفي أصحاب راس المال والشركات والمصارف الكبرى من الضرائب وتحرم الفقراء (بمعزل عن جنسيتهم) من الحق في العمل والسكن والطبابة. غضِبَ طلاب جامعة الفقراء فانفجر الشعب انتفاضةً ستغيّر مجرى الزمان في هذا الوطن. تصدّع جدار البنية الطائفية في السابع عشر من تشرين وبدأت معالم الحسّ الطبقي والغضب الوطني الجامع تتجلّى، مُحطّمةً ثقافة الأيقونة السياسية وهيبة الحزب الطائفي فقالها الطلاب "بدنا علم وخبز ومصنع! نحنا الشعب اللي بقرّر ولمّا بدنا منغيّر!". لقد وضعت حركتنا الطلابية في لبنان نفسها في موقعها الطبيعي كجزء من الحركة الوطنية في البلاد. وإن كانت انتفاضة ليلة 17 من تشرين نقطة تحوّل أولى في صوغ معادلة تقرير المصير في البلاد و ليلة الـ22 نقطة تحوّل ثانية في وعي الانتفاضة للتناقض الوجودي بين الإرادة الشعبية والنظام اللبناني، فصبيحةُ السادس والسابع من تشرين الثاني كانت نقطة التحول الثالثة. نقطة تحوّل لا رجعة عنها في قواعد المواجهة بين النظام والحركة الشعبية. إنّ خروج الجسد الطلابي ككتلة متراصّة إلى الشارع في السادس من الشهر الجاري لهو انتفاضة تولد من رحم الانتفاضة.إنّ تحرّكَ الجسد الطلابي حصنٌ معنوي وفكري منيع للخطاب الجماهيري في الميدان. فمن شأن ولوج شخص الطالب في الشأن العام وبالتالي تبنيه لوجوده كفاعل سياسي، أن يقي وعي الشعب السياسي التحرّري من مغبّة الانكماش الذاتي أو التراجع أو الوهن. أي أنه لا مجال لسيناريو "التداعي السياسي" الآن، ولا مجال للمساومة مع بنيان النظام القائم الآن خاصّة بعد مأثرة طلاب الجامعة اللبنانية في السابع من تشرين الثاني، حيث أعلنت التشكيلات الطلابية المستقلة في الجامعة اللبنانية تمرّدها على مجالس طلاب الفروع – رموز إرهاب الدولة ضمن بنيان الجامعة اللبنانية القائم، الذي حول المؤسسة إلى آلة تجهيل ممنهج لإعادة إنتاج الطغمة السياسية والاقتصادية الحاكمة إداريّاً، ولتكريس ثقافة التطبيع والمطاوعة شعبيّاً. لا يقلّ الفعل الذي حرّر صرح الحدث من صمته في السابع من الشهر الجاري عن فتح ميداني ينتظر جلاءً فكريّاً أكثر جموحاً في جذريّته لكي ننتقل من مرحلة الحس الوطنيوالطبقي إلى فضاء الوعي الطبقي والوطني الجماهيري. خلاصةً، فقد وضعت حركتنا الطلابية في لبنان نفسها في موقعها الطبيعي كجزء من الحركة الوطنية في البلاد. أي أنّنا قد أعلنا مواجهة واقع مؤلّف من حقيقتين، الأولى هي البنيان التابع لأنظمتنا الرجعية والثانية فهي الراهنية الإستعمارية المتمثلة بالكيان الصهيوني التوسعي القاضم للأرض والأنهار والذي يتوغّل في بنياننا الاقتصادي على صيغة شركات عالمية. إن استمرارية هذا الواقع تُحتّم علينا جملة من المهام تتمثل بـالآتي: أوّلاً، ضرورة نشر وعي نقيض للنظام من جهة ولحالة الاعتراض الليبرالي من جهةٍ أخرى. على الوعي الطلابي النقيض مواجهة استفحال منطق منظمات المجتمع المدني المدعومة من الخارج والطروحات المطلبية المجتزأة والمهادنة للمنطق "الدستوري" الراهن. فمن غير المقبول أن نطوّع خطاب انتفاضتنا لـ"إصلاحات" متناثرة أو "تعديلات" قانونية لمنظومة آسنة في الجوهر. كأن نطالب بـ"تعديل قانون الضرائب أو العمل" بدلاً من أن نركّز على إلغاء المنظومة الضريبية نحو نظام جديد يرتكز على شطب الدين العام  وتأميم المصارف وإلغاء الضريبة غير المباشرة نحو اقتطاعات جبرية لذوي الشركات الكبرى واستعادة المال من الأوليغارشية الـ"وطنية". من غير المقبول أن نذعن لمنطق "التعديات" ضمن بنية السوق القائمة دون أن نعلّي الصوت ضدّ التمدد الإستعماري الجديد للشركات متعددة الجنسيات التي توفر فرص عمل منتجة للاستهلاك والتبعية لاقتصادات الخارج. من غير المقبول أن يسقط لنا جرحى وشهداء وأن تُحرق خيامنا ويُضرب شبابنا وشيوخنا في رياض الصلح والزيتونة وصيدا وكفررمان والنبطية وجونية وجل الديب وقبلهم في مخيم المية ومية ونهر البارد وعين الحلوة بأسلحة تستوردها سلطتنا الرجعية الطائفية من سوق السلاح العالمي الذي يتمول من السيولة الناتجة عن استهلاكنا لسلع الشركات العالمية مثل"نتسلة وبوما وباتشي وجي فور أس وزارا وأيشتي... إلخ". من غير المقبول أن نُضرب حدّ الإدماء تحت هراوات مكافحة الشغب وبنادق العساكر المستوردة دون أن نلحّ على فرض سياسة حمائية قاسية تكفّ عنّا بطش الدولة الفاشلة من جهة، وارهاب الدول العالمية وثقافاتها الاستعمارية من جهة أخرى.  ثانياً، ذلك الوعي يتطلب إسنادَ أمر قيادة الحركة الجماهيرية الطلابية إلى مساحات الإنتاجالمعرفي الجماهيرية المفتوحة، حيث من الممكن بلورة كوادر فكرية ثورية مُخوّلة تنظيم حركة حزبية سياسية راديكالية تنشط فكريّاً ضمن منطق جدلي يصل حركة التحرّر الوطني بالمواجهة الطاحنة ضدّ النظام اللبناني التبعي نحو العدالة الاجتماعية. وذلك لا يتحقّق إلّا بتكثيف الجهود نحو مأسسة مدرسة ميدانية ثورية ترتكز على مفهوم الإنتاج المعرفي الشعبي- الجماهيري المنظم. ثالثاً، ذلك يؤدي بنا إلى ضرورة النضال ضدّ الإستيراد المعرفي فيما يخص المساحة الأيديولوجية الثورية، وذلك من خلال نقض النهج "اللاسياسي" ونهج "الخندقة" السياسية الفكرية التي تستمد غذاءَها الفكري من استفحال أنماط الاستهلاك المعرفي الغربي والإعلام التبعي متعدّد الأقطاب. ذلك يستتبع وجوب بلورة منهجيات علمية وطنية تحررية من خلال استنهاض أدبيات الفكر التحرري العربي (وغيره من أدبيات عالم الجنوب)، ونقضه ضمن قراءة تحررية لتاريخ الوطن العربي بالمجمل والقطري اللبناني على وجه الخصوص. فمن غير المسموح أن نحرّر جامعتنا الوطنية من الطائفية السياسية لنجدها جامعة منتجة ضمن منطق تبعي وفقاً لمعايير الاستلاب الأكاديمي الأجنبي سواءً على مستوى المنهاج أو التخطيط البحثي والإنمائي. رابعاً، وفي هذا المضمار نصل إلى ضرورة نسج العلاقة بين طلاب الجامعة الوطنية وطلاب الجامعات الخاصة على أساس نظرة تضع نصب أعينها وجوب تقويض دعائم القطاع التعليمي الخاص نحو تأسيس مؤسسة تعليمية تربوية تحررية وطنية. لا يمكن مقاربة مشاغل الطلاب في القطاع التعليمي الخاص بالأزمة الوجودية المتعلقة بالجامعة اللبنانية. إن القطاعين  كيانان نقيضانشكلاً ومضموناً على كافة الأصعدة إداريّاً وماليّاً وزبائنيّاً ومعرفيّاً. وإنّ مؤشر رخاء قطاع التعليم العالي الخاص لهو مقرون بديهيّاً بعلاقة عكسية مع تطوّر مقومات الجامعة اللبنانية معرفيّاً وزيادة الحرية والرخاء الطلابي فيها. نشير إلى ذلك لنقول صراحةً أنّ اتحاد الجسد الطلابي في لبنان لا بد ألّا يهدف إلّا إلى انشاء اتحاد طلابي وطني عام يأخذ على عاتقه على المدى الطويل تأميم قطاع التعليم العالي ككل نحو تثوير قطاع الإنتاج المعرفي في معركة ضروس ستُشحذ لها العيون، لكنّ لا مفر من خوضها. أخيراً، لابدّ أن تعمد حركتنا الطلابية إلى تعبيد الطريق نحو هندسة هوية إقليمية تمكنها من إنشاء أطر طلابية تضامنية فاعلة على امتداد الوطن العربي والعالم، نحو تحطيم المنهجيات القطرية والإقليمية، وخلق منهجيات وحدوية ما سينعكس إيجاباً على تسييس الحركات الحقوقية التضامنية التي طالما احتكرتها أسواق المنظمات غير الحكومية وتابعيتها الغربية. محليّاً، هذا يحتم التشديد على الهوية الطبقية للحركة الطلابية وذلك يستوجب إعادة صقل الخطاب الطبقي الوحدوي العابر للمواقع والتصنيفات القانونية (مواطن ، لاجئ، نازح، مقيم غير قانوني إلخ...) والنضال الفعلي ضد عمليات العزل والإحتواء الجغرافي المناطقي التي تنتهجها الدولة اللبنانية لترويض المزاج العام وتطبيع منطق التفرقة والإقصاء على حساب عملية الوحدة الجماهيرية الطبقية التي تبلورت اليوم بشعار "يا شعبي لازم تعرف، أكبر حرامي المصرف". في السابع عشر من تشرين الأول عام 1973 التجأت مجموعة "تشي غيفارا" بقيادة علي شعيب ورفاقه الستة من اللبنانيين والفلسطينيين الشيوعيين إلى بيوت مخيم صبرا وشاتيلا وباتوا بين أسرّة الفدائيين قليلاً قبل أن يذهبوا لينفذوا أكبر عملية سطو مسلح على مصرف في تاريخ لبنان. في الثامن عشر من تشرين وقف علي أمام الرهائن قائلا "لا تخافوا فالعملية لا تستهدفكم وليست للسلب.... نحن هنا لأنّ الثورة هي حمل السلاح ضد نظام الـ 4 % .... وديمقراطية الـ 4% وتشريع الـ 4% وعدالة الـ 4%..." استشهد منفذو العملية ولكن ها نحن هنا بعد 46 سنة بالضبط! ننتفض ضدّ الـ 1% ومصارفهم. كثيرةٌ هي مهامنا وكُثرٌ هم أعداؤنا في معركة التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية، لكن الأزمة لن تُفرج بسهولة بعد أن استفحلت حلقاتها. إنّها المرة الأولى منذ مجموعة غيفارا التي تجد فيها الطغمة السياسية والاقتصادية اللبنانية نفسها في مواجهة شارع يريد استئصالها ونسف الأسس التي قامت عليها. إنها مغامرة وجودية كبرى تتحدّى مفهوم الدولة اللبنانية وتاريخها ومستقبلها. ولأنّ الأعداء كثرٌ والشارع أسرع في مشاعره من قدرتنا التنظيمية كطلاب، علينا أن نكون واقعيين والواقعية هي أن لا نطلب أقل من المستحيل لأنّالمواجهة قائمة والمسؤولية تاريخية.
Read more...

المماطلة والبلطجة لن تحرف مسار الانتفاضة

Published in لبنان

ها قد مضى شهر ونصف على بدء الانتفاضة الشعبية الرائعة، وما زال شعبنا مستمرّاً في الشارع والساحات في جميع مناطق لبنان. ومع أنّ صرخاته المدوّية المعبّرة عن وجعه تردّدها الساحات والشوارع، فإنّها لم تدخل بعد كما يبدو، في اسماع وعقول زعامات الطبقة السلطوية. فهم لم يعتادوا الإصغاء إلى أصوات الناس خصوصاً الكادحين والفقراء ومجمل المظلومين. يزعجهم سماع صوت الرأي الحرّ الحقيقي، والفكر النيّر، والمواقف الوطنية الجريئة. ويبدو أنّ الأطراف السلطوية، لا تكترث إلّا بمصالحها الخاصة وحصصها والتوافق عليها وتتغافل عن صوت الوطن، وصوت الشعب الهادر في كل لبنان، المُطالب بالعيش الكريم وبالحصول على أبسط حقوق الانسان في القرن الواحد والعشرين بدولة قانون، وبوطن يعيش فيه أبناؤه. فلا يصدِّق أحدٌ في عالم اليوم، أنّ لبنان بعد ثلاثين سنة على توقف الحرب، ما يزال شعبه مثلاً، يعاني من تقنين في الكهرباء أكثر قساوة ممّا كان عليه في ظروف الحرب الأهلية، وكذلك في مياه الشفة وغيرها مثل مشكلة النفايات. ففي حين استطاع شعبنا أن ينتصرَ في مقاومة الاحتلال، ويفرض على جيش العدو الصهيوني الانسحابَ المذل، بدءاً من عاصمتنا بيروت، بدون قيد أو شرط، يجد اللبنانيون الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمالي، ومجمل الوضع الداخلي، مشهداً بائساً ومعاكساً، لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتيجة سياسات الطبقة السلطوية المستمرة منذ ثلاثين سنة وحتى الآن. وهذا ما أوصلنا إلى ما يعيشه شعبنا وبلدنا من أزمات وتدهور وبدء انهيار اقتصادي ومالي يطال بانعكاساته الطبقات الفقيرة وجمهور الطبقة الوسطى، ويزعزع الثقة بلبنان وبمستقبل أبنائه الشباب، الذين لا يتوفر لهم التعلّم وفق منهاج تعليمي حديث، وتكوين مواطن ووطن، ولا سكن، ولا فرص عمل تبقيهم في وطنهم، ولا ضمانات صحية لقسم كبير منهم، ولا ضمان شيخوخة لكبارهم. إنّ مواجهة هذه السياسات السلطوية ونتائجها، هي التي تجلّت بتفجّر الانتفاضة الشعبية المليونية، وهي مع ما سبقها من نضالات في الشارع، تعبّر عن حقوق ومصالح شعبنا وكادحيه، ضدّ الإفقار والفساد المستشري وهدر وسرقة المال العام داخلياً، وضد سياسات الغرب الإمبريالي والتبعية لها من خلال وصفات صندوق النقد الدولي، والهيئات والمؤسسات الدولية الأخرى، التي تخدم مصالح الاحتكارات الرأسمالية الضخمة. لذلك نرى أنّ المستفيدين من تركيبة السلطة ونظامها الطائفي التحاصصي، ومنظومة الفساد الناجمة عنها، يلجؤون إلى ترويج الشائعات والدعايات، ومنها وصف الانتفاضة بأنها مؤامرة أميركية، واعتماد المماطلة الطويلة علّ المنتفضين يتعبون، وصولاً إلى استخدام ممارسات البلطجة والإعتداء المباشر على جمهور الانتفاضة في الشارع والساحات. والمؤسف والمؤلم في آن، هو أنّ هذه الارتكابات تجري تحت عنوان حركة أمل وحزب الله. ممّا يطرح عدّة تساؤلات، منها، ألا يفكر الذين هم وراء هذه الممارسات الاستفزازية، بأنّ شحن الأجواء الشعبية بالعصبيات والانقسامات، مُعادٍ للوطن ووحدته، ولدور المقاومة؟ وأنّ حقوق ومطالب الشعب بالعيش بكرامة، هي القضية التي فجرت الانتفاضة المليونية، وليس السفارات، التي تحاول استغلال الوضع اليوم وأمس وغداً، للاصطياد بالماء العكر؟ ألا تنمّ أساليب أضعاف وضرب الانتفاضة والعمل لحرفها عن طبيعتها ومسارها، عن الخوف والرعب من ضرب منظومة الفساد السلطوية ومحاسبة الفاسدين؟ ألا يدرك هؤلاء أنّ هذه الممارسات المشينة في شوارع بيروت ومدينة صور، تجرّ البلاد إلى افتعال فتنة تصّب في مخطط الفوضى الأميركي، وتفتيت بلدان المنطقة ومنها لبنان؟ هل هذا هو وجه المقاومة الداخلي؟ وهل من مصلحتها تقليص أم توسيع التأييد الشعبي لها؟ لقد برهنت جماهير الانتفاضة أنّها تعي الأغراض المبيتة، فلم تنجرّ إلى هاوية الفتنة لضرب الانتفاضة وتحويل التناقض بين الشعب والطبقة السلطوية إلى صراعات ونزاعات بين الجماهير الشعبية الكادحة والجائعة نفسها. وإنّ على الأطراف السلطوية الآن، التوقف عن المماطلة والتسويف بتشكيل حكومة وطنية مستقلة بصلاحيات واسعة، لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، والتركيز على وقف الانهيار الاقتصادي والمالي، واتخاذ تدابير استعادة المال المنهوب. وهذا الأمر هو ضرورة وطنية انقاذية، فوق الصراع على المصالح الفئوية والخاصة. ولم يعد بإمكان أحد في السلطة وخارجها تجاهل دور المارد الشعبي الذي خرج من القمقم، ولن يعود إليه. فالشعب هو مصدر السلطات والوطن فوق الجميع.
Read more...

كيف تكون الثورة نظيفة؟

Published in لبنان

ربما من المبكر اليوم الحديث عن ثقافة "ثورة 17 أكتوبر"، لكن من الضروري إنصافها حيث ثابر الكثيرون على تحميلها الكثير من الإسقاطات الأيديولوجية والأخلاقية والدينية، متناولة أشكال ومظاهر تعبير هذا الجيل المنتفض بقوة، الجارف لكل الثوابت الإجتماعية والسياسية وفي مجال المعتقدات والأفكار. يتساءل المفكر مهدي عامل بكلمات بسيطة معبّرة "كيف تكون الثورة نظيفة، وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر متُسّخة به، وتهدمه وتغتسل بوعد أنّ الإنسانَ جميلٌ حرّاً". إن إنقباضات هذه الولادة تتجسد شيئاً فشيئاً يوماً بعد يوم، لها دلالاتها الرائعة بعيداً عمّا تتناقله شاشات التلفزة. محفورة على جدران الساحات المتلونة باستمرار بأجمل لوحات الغرافيتي، منسوجة بصرخات النسوة والشباب وأناشيدهم الذكية البسيطة الممزوجة بالسخرية اللاذعة، مُنمّقة بهمسات المفكرين والاقتصاديين والمحللين في حلقات النقاش الليلية على أعتاب الساحات والزواريب الجانبية. لهذه الثورة ضجيجها القوي، ضجيج موسيقاها المبعثرة المرتكزة على مخزونٍ قديم لم يفقد رونقه وصداه بعد، مخزون ثقافي، حفره فنانو جيل اليسار في الذاكرة الجماعية لآلاف الشباب الثائر والمناضل لسنوات وسنوات ، هذا الجيل ما زال يتنقل يومياً بين الساحات ينشد للجماهير المنتفضة. لكن للشباب اليوم ضجيجهم الخاص، المرتكز على تجارب ما بعد الحرب الأهلية، من نضالاتهم بحملة إسقاط النظام (2011) والحراك الشعبي (2015)، فأغنية "الشعب يريد" تعكس رفض الطفَار للفقر والتبعية، تحفر هوية متمايزة بألحان هذا العصر من الراب والتكنو. تستمد من تجارب ثورات العالم العربي، أغاني الثورة المصرية وأغاني الالتراس، وتتماهى مع الجيل العربي الرافض لكل أشكال القمع والتبعية. كما تغتني من معارك النسوية وحق الجنسية والقانون الموحد للأحوال الشخصية ونضالات سلسلة الرتب والرواتب. إنه جيل منصّات التواصل الإجتماعي، المُنفتح على كل تجارب العالم، يتعلم، يكتشف، يطوّر – بسرعة – حركته، يقرع الطبول والطناجر ليلاً عند الساعة الثامنة، ليبعث القلق والخوف في نفوس كل من باع ضميره. إن الثورة هي تعبير عن الإبداع، والثقافة فعل إبداعي، أما التكرار واستدعاء الأفكار النمطية فيعني العيش في الماضي أي خارج الحياة. أما بالنسبة إلى حلقات الشتم التي سادت الأيام الأولى، فقد كانت أشبه بصرخات ثائر لا يدرك إلا الرفض والقول كفى، لا، ولن أقبل. هي صرخات ثائر يحاول أن يحطم كل الأصنام المسيطرة، بإشهار ما يمارسه في السرّ بين جدران المنزل. إنها يوفوريا جماعية لشعب صمت طويلاً في وجه هذه السلطة. لكن سريعاً ما اندمجت الساحات، كل الساحات وفرزت أغانيها التي تحاكي جيلها الثائر، من خلال فناني الجيل الجديد، كل يوم أغنية، بوستر، فيلم ترويجي وتثقيفي، فكرة جديدة، نقاش،عزف كلاسيكي، محاولات تهدف لإسترجاع "التياترو الكبير" هذا الصرح المهمل والمغلق والمُباع. لكلٍ حركته الخاصة، ممثلين ومبدعين ومخرجين يتنقلون بين الحشود، يتحدّون الواقع، يطالبون بثقافة بديلة عن الثقافة السائدة، تكون مسؤولة ومنصفة. خرج الفنانون إلى الشارع أبدعوا، نقلوا حفلاتهم من المسارح المغلقة ، شاركوا - بجمالية مميزة - بإغلاق بعض الطرقات، نقلوا الفرح والحب إلى إنتفاضة قاسية وصعبة في وجه سلطة حاكمة مهيمنة لن تتنازل بسهولة عن الكمّ الهائل من المنافع التي تضمن إعادة انتخابها. تتشكل أطر نقابية جديدة ترفض التبعية لأحزاب السلطة الحاكمة. تجد طلاباً تمردوا رفضوا دخول صفوف الدرس، يطالبون بالمشاركة الجدية في الحياة السياسية وبقانون تخفيض سن الاقتراع. كما برزت قطاعات مهنية عدٌة الى جانب القطاع العام في ساحات النضال. والأهم من ذلك كله، بروز مفهوم استملاك المساحات العامة، الفعل الذي يدلّ عن وعي جماعي لمُلكية الوطن من "شعب" يريد إسترجاع مساحاته ووجوده وصوته وكلمته في هذا البلد. لكل يوم بريقه ولمعانه، أفواج من الشباب، تهيم في حلم التغيير وبناء دولة مدنية وطنية، تهتف ضد السياسات الاقتصادية، ومن أجل إسترجاع الأموال المنهوبة، وتعلو أصواتها بغية المطالبة بحقوق كل المحرومين والفئات المُهمّشة. أما النساء، فقد قّدن المظاهرات وصرخن انشدن وقاتلن في سبيل بناء وطن. "بفعل نضال الثوريين يتوحدون، على اختلاف تياراتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، في حركة ثورية جديدة واحدة، تُعيد إلى العالم نضارته، وبها التاريخ يستوثق. فالثورة ليست حكرا على فكر، أو حزب، أو طبقة" (مهدي عامل)تتعدد القوى السياسية والاجتماعية في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، للتنتج حركة ثورية تتناغم مع المرحلة التاريخية الراهنة وتنسجم مع مكوناتها. آلاف الأسئلة تُطرح يومياً على هذه الحركة الثورية الجديدة التي تسعى جاهدة أن تكون واحدة. كيف يمكن بناء "شعب" بين ركام الحرب الأهلية والأحزاب الطائفية والإنقسام الطبقي؟ كيف يمكن إنتاج مجموعة من القيم الثقافية والأخلاقية، التي يمكن أن تصبح مشتركة بالحدّ الأدنى بين الأفراد والجماعات، وتصوغ كثيراً من توجهاتهم ونظرتهم للعالم؟كيف يمكن للتراكم في مجال الثقافة السياسية أن يساهم بالخروج من الدائرة المفرغة، وننتقل من مرحلة الوعي إلى مرحلة تحقيق مكاسب حقيقة؟
Read more...

انتفاضة 17 أكتوبر: خطوة على طريق الثورة

Published in لبنان

دخلت "انتفاضة 17 أكتوبر" أسبوعها السادس على التوالي، وسط إصرار من المنتفضين بكافة الساحات وعلى امتداد مساحة الوطن على توحيد مطالبهم ومواصلة تحركاتهم حتى تشكيل حكومة وطنية انتقالية، وتطبيق المادة الـ 22 من الدستور وإقرار قانون انتخابات نسبي وخارج القيد الطائفي، ثم تحقيق استقلالية القضاء واسترجاع المال العام المنهوب والأملاك العامة. انتفاضتهم لم تعرف الخوف ولا التعب أو الملل، فهم يعلمون أن معركتهم طويلة لإسقاط هذا النظام السياسي الطائفي وبناء الدولة الوطنية العلمانية الديمقراطيّة وتغيير السياسات الاقتصاديّة - الاجتماعيّة، حينها تتحقق الثورة. مماطلة، اعتقالات، بلطجة واعتداءات، بث الإشاعات والفتن،... مشهدٌ اعتدناه لليوم الـ 44 على التوالي، لسيناريو "تخبّط أهل السلطة" في وجه منتفضين سطّروا بكفاحهم وصلابة إرادتهم تاريخاً مجيداً للبنان. تلك السلطة الغارقة في تجاذبات الاشتباك السياسي دفاعاً عن محاصصاتها أرعبها إصرار الشعب على مواجهة سياسات التجاهل المعتمد من كافة أطرافها دون استثناء، وسط انهيار مالي واقتصادي.تلك الانتفاضة جاء تمويلها "السري" من وجع مواطنين أُرهقوا بنهج المحاصصات والفساد والتبعية والولاءات مدة ثلاثين عاماً، وسياسات حكومات متعاقبة دمرّت البلد وأفقرت شعبه وأغرقته بديون مؤتمراتها الباريسية. وهجّرت أبناءه، تقاسمت أملاكه، وضربت مؤسساته العامة. وسلبته حقوقه بالطبابة والسكن والعلم والعمل والكهرباء والبيئة الصحية. "مش فالّين"أما خطابات السلطة "فتزيد من الطين بلة"، إذ تشكل مفعولاً عكسياً على المنتفضين الذين اعتادوا على تجاهل مطالبهم ونضالهم اليومي منذ 44 يوماً، ليأتي ردهم في تزايد زخم الساحات، وتصويب الاحتجاجات على المرافق العامة ومكامن الهدر والفساد كخطوة ضرورية للاستمرارية حتى تحقيق المطالب.إذ أن مقابلة الرئيس عون الأخيرة (12 تشرين الجاري) والتي طالب فيها من المتظاهرين بالخروج من الشارع وتشكيل وفد لطرح مطالب الحراك، خاتماً بعبارته الشهيرة "اللي ما عجبوا يفل" والذي حاول جاهداً في ما بعد إلى تبريرها غير المبرّر، والتي أشعلت غضب الساحات وأعلنت الإضراب العام، فتزايدت أعداد المنتفضين، مطلقين هتافات "مش فالين"، و"بيّ الكل، فل".الغضب من خطاب عون، تصاعد مع سقوط شهيد الثورة الثالث علاء أبو فرج وعاد زخم الثورة، وتكثّفت التحرّكات في كافة المناطق من دون انقطاع. المماطلةيراهن أقطاب السلطة على تعب الشعب، فيتقاذفون الاتهامات فيما بينهم من جهة، ويبرعون في استخدام أساليب شدّ العصب الطائفي والمذهبي وتأجيج الثورة المضادة من جهة ثانية. في المقابل، يظهّر الحراك موقفاً موحّداً، أمام هكذا محاولات، في ظل وجود عمل يومي للتنسيق بين القوى والمجموعات، رغم عدم وجود قيادة موحدة جامعة. فما إنْ تسرّب اسم الوزير السابق محمد الصفدي لترؤس الحكومة العتيدة، بادرت الساحات في كافة المناطق إلى تنفيذ احتجاجات شعبية والمطالبة بالتحقيق معه ومحاكمته على خلفية ملف الاعتداء على الأملاك العامة البحرية وإقامة "الزيتونة باي" على خليج السان جورج.ونجحت الانتفاضة مجدّداً بتسجيل انتصارٍ آخرعلى السلطة وإسقاط صفقة الخليلين بطرحهم للصفدي، الذي أعلن في 16 تشرين الثاني عن اعتذاره عن قبول الاتفاق السياسي على تسميته لتشكيل حكومة. استقلال الاستقلاليخوض اللبنانيون في انتفاضتهم اليوم معركة الاستقلال الحقيقي عن هذا النظام السياسي الطائفي المولّد لكافة الأزمات التي يعيشها البلد، للتحرر من سياسات الاستغلال والهيمنة والسيطرة التي تفرضها السلطة؛ أولاً، بالاستغلال الطبقي الذي أوصل البلد إلى الإنهيار وشعبه إلى مزيد من الإفقار. وثانياً، بالولاءات والتبعية للخارج وفرض الهيمنة الغربية والسيطرة الأميركية على مقدراتنا وبأدواتها الصهيونية والعربية الرجعية. وخير دليل على ذلك، ما نشهده اليوم من التدخلات الأجنبية ولا سيما المبادرة الثلاثية الأخيرة التي قامت بها كل من فرنسا وأميركا، وبريطانيا.وبما يتعلقبالاستغلال الطبقي يواصل الحراك الشعبي مواجهته له، عبر رفض ما سمي بالورقة الإصلاحية، ووضع حلول بديلة من اقتصاديين واخصائيين تساعد البلد للنهوض من هذه الأزمة.أما بما يخص التبعية والهيمنة، فمطالب الحراك واضحة، تترجم عبر التمسك بضرورة "التحرير والتغيير"، فجاءت الوقفات الاحتجاجية في ساحات الاعتصام رداً على تصريحات جيفري فيلتمان الأخيرة. العرض المدنيأحيا لبنان العيد السادس والسبعين للاستقلال بعرضين متناقضين؛ الأول تخلله عرضٌ عسكريٌّ باهت ومصغر، سادته أجواء واضحة على وجوه الرؤساء الثلاثة عكست خلافاتهم السياسية حول تشكيل الحكومة المرتقبة وفقاً لمقاسات ومحاصصات كتلهم النيابية. في المقلب الثاني، شهدت ساحة الشهداء، استعراضاً وطنياً شعبياً بعنوان "العرض المدني"، شارك فيه 41 فريقاً من مناطق مختلفة.، فكان أشبه بعرس وطني لأول مرة أعطى للبنانيين المعنى الحقيقي للاستقلال منذ 76 عاماً.استهل العرض بتحية تخليداً لأرواح الشهداء والنشيد الوطني، ثم عرضٌ على الخيل، تلته الفرق التي تقدم كل منها لافتة باسمها مسبقة بكلمة "فوج" وهي: الدراجات النارية والهوائية، الإرادة، العسكريون المتقاعدون، المعلمون، البيئة، المحامون، الطلاب، الأمهات، الأشبال، الآباء، أطباء، إعلام، خبراء ومكافحة، زراعة، مهندسون، إيقاع، عمال، صناعيون، مواصلات، اندفاع، حقوق النساء، حرفيون، تجارة، فنانون، نساء ورجال أعمال، مبدعون، طاقة، رياضة، سياحة، طناجر، حقوق الإنسان، مشاة، مغتربون، موسيقيون، ناشطون، جنوب، شمال، بقاع، جبل لبنان، وبيروت.وقدّم كل فوج أفكاره بطريقة خاصة، عبر ابتكار شعارات مطلبية مناسبة لفوجه، وذلك على وقع الأغاني الوطنية والثورية التي عزفتها إحدى الفرق الموسيقية. "خبز وملح"المنتفضون من الشمال إلى الجنوب شاركوا في "أحد التجمع على النقاط البحرية" بعنوان "خبز وملح" تأكيداً على حق اللبنانيين في الإفادة من الشاطئ ورفضاً للتعديات على الأملاك البحرية والمطالبة باسترجاعها للشعب.وأيضاً، تجمّعوا في محمية مرج سد بسري للمطالبة بإيقاف الجريمة البيئية وإقامة مشروع السد. هزائم الثورة المضادة"غزوة" فجر الاثنين الماضي على جسر "الرينغ" ومحيطه جاءت أكثر حدية من "الغزوة" السابقة يوم 29 تشرين الأول الماضي في ساحتي الصلح والشهداء، وجّه خلالهما الثنائي الشيعي رسالة واضحة تجاه مظاهر الحراك. الأولى تبعها إعلان الحريري استقالة الحكومة، أما الثانية فتبعها محاولات أخرى سريعة في أقل من 24 ساعة لإثارة الفتن وزرع الرعب في بعض المناطق وهتافات تلوّح بعودة 7 أيار مجدداً، فكانت ذروتها في الهجوم على اعتصام ساحة العلم في صور وحرق الخيمة التي بادر حراك صور إلى نصب غيرها، معلناً مواصلة انتفاضاتهم، ثم تلاه الاعتداء على اعتصام ساحة المطران في بعلبك، وسط صمود واستمرار المعتصمين.وفي سياق متصل، قام مشبوهون بافتعال إشكال بين القوى الأمنية ليل 19 تشرين الثاني في ساحة رياض الصلح، ما أدى إلى رد الأخيرة إلى جرح 3 معتصمين واعتقال 12 آخرين من المشاركين في الاعتصام الذين لا علاقة لهم من قريب أو بعيد، بالاستفزاز المدبّر مسبقاً بين بعض العناصر والقوى الأمنية. فأدان بيان باسم انتفاضة 17 أكتوبر هذا التعدي، مشيراً إلى أنها "ليست المرة الأولى التي يجري فيها افتعال مثل هذه الأعمال لتشويه صورة الانتفاضة".كما أكّد المنتفضون على مواصلة اعتصامهم السلمي في ساحة رياض الصلح بوجه كل محاولات السلطة وأدواتها ممن ترسلهم إلى ساحات الاعتصام للتخريب ولبث الإشاعات والتحريض على المعتصمين.يذكر، أن نقيب المحامين الأستاذ ملحم خلف سارع ليلتها إلى التواجد في ثكنة الحلو ولجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين الذين أفرج عنهم صباح اليوم التالي. تنظيم الحراكيتساءل البعض وأبرزهم السلطة وأتباعها عن قيادة الحراك، متجاهلين أن هيمنة أحزابها على النقابات والروابط والاتحاد العمالي العام وتحالفاتهم ضربت الجهة المفترض أن تقوم بتمثيل الشعب وتحمل لواء الدفاع عن حقوقه لا التآمر عليه.فجاء الرد من قوى وشخصيات سياسية واقتصادية واجتماعية وهيئات ومجموعات شبابية وطلابية ومدنية واتحادات نقابية ومهنية وتعليمية من مختلف ساحات الانتفاضة، تداعت كلجنة تحضيرية إلى عقد ورشة حوارية في الكومودور في 19 تشرين الثاني حول الانتفاضة تحت عنوان "المرحلة الانتقالية: الرؤية والبرنامج"، وخلصت إلى إعلان الآتي: التوجّه بتحية إكبار إلى شهداء الانتفاضة علاء بو فخر وحسين العطار وعمر زكريا، وإلى كل المنتفضين الذين ملأوا الشوارع والساحات وعلى امتداد مساحة الوطن طيلة شهر بكامله، وسطّروا بكفاحهم وصلابة إرادتهم تاريخاً مجيداً للبنان، بالرغم من الاعتداءات والاعتقالات التي تعرّضوا لها، في المخافر وعلى الطرقات العامة والساحات، ومن قبل القوى الأمنية وميليشيات الزعامات الطائفية، والدعوة إلى متابعة الانتفاضة وتصعيدها للخلاص من السلطة السياسية الفاسدة ونظامها الطائفي والمذهبي المولّد للأزمات والتدخلات الخارجية، وصولاً إلى بناء دولة وطنية ديمقراطية". وتم التوجّه بالشكر أيضاً لكل الذين قاموا بتلبية الدعوة، و"الذين أسهموا، عبر عشرات المداخلات، في إغناء النقاش حول مسألة إعادة تكوين مرتكزات السلطة وتشكيل حكومة انتقالية وطنية وذات صلاحيات استثنائية، تتولّى اتخاذ إجراءات فورية لمعالجة التبعات الاقتصادية والاجتماعية للانهيار النقدي والمالي، وتؤمّن استعادة المال والأملاك العامة المنهوبة والتأسيس لنظام ضريبي تصاعدي جديد ولإعادة هيكلة الإنفاق العام، بالتزامن مع إقرار قانون جديد للانتخابات قائم على النسبية خارج القيد الطائفي". وتداول المجتمعون "أهمية تصعيد الانتفاضة واستمرار الحوار المشترك، بمختلف السبل والأشكال المناسبة، بما يعزّز مساحة التفاعل البنّاء والتلاقي الوثيق بين مكوّنات الانتفاضة". وتقرّر في هذا السياق الأخذ بالاقتراحات والملاحظات والتعديلات التي أبداها المشاركون على مشروع الورقة المقدمة إلى الورشة الحوارية، كما تقرّر عقد جلسات حوارية. هي انتفاضة بحجم الوطن، عابرة للطوائف والمذاهب. سواء أطلق عليها ثوّارها "انتفاضة"، أو "حراك" أو "ثورة". فالعزيمة والإصرار والحرص على استكمال المواجهة هي الإسفين الذي ضرب نعشَ هذا النظام السياسي الطائفي الفاسد الذي سيزول حتماً لتحقيق نقلة نوعية في طبيعة هذا النظام المتعفّن وخلق منظومة جديدة في الاقتصاد والسياسة والتعليم والنقابات.
Read more...

الانتفاضة وجدليّة تكوين الموقف السياسي

Published in لبنان

تسجل الانتفاضة الشعبية، انتفاضة 17 اكتوبر، ولأول مرة في لبنان، حدثاً تاريخيّاً بكل المقاييس، وهوحدثٌ سيؤثّر حكماً، ويطبع بطابعه المرحلة المقبلة، وفي اتجاهين؛ أفقياً، على اتساع الوطن وشمولية القطاعات والقضايا، وعمودياً، على مستوى القوى المنخرطة فيه على ضفتي المواجهة؛ السلطة ومكوناتها، والشعب بكليته وبقواه السياسية – الجذرية منها أو المتسلقة على أكتاف المناسبات للاستفادة الآنية من نتائجها– يضاف إليهما الخارج، وهو الممسك ببعض الداخل، من قوى سياسية مرتبطة به وبمشاريعه، والمعني بالأساس، بالتركيبة السياسية القائمة في لبنان، والتي بطبيعتها تابعة بالسياسة والاقتصاد، لتعكس توازنات إقليمية ودولية محكومة بنمط من علاقات الدول ومصالحها. فالقراءة السياسية لهذا الحدث محكومة إذن بتلك التعقيدات؛ فالتركيبة الهجينة للنظام السياسي جعلت مساحة التقاطع الإقليمي والدولي واضحة وجليّة، ما يجعل كل قراءة تغفل أيّاً من تلك العوامل، ناقصة. وفي المقابل، أي تعامٍ عن الظروف الداخلية للأزمة، والتي لا تنقصها الأدلّة ولا الإشارات، ستجنح بالابتعاد عن الفهم الموضوعي المطلوب في هذا الوقت. فأدلّة الداخل لا تنقصها مؤشرات الخارج، لأن بناءه لم يكن في الأساس من خارج عباءة ذلك الخارج وتأثيراته، لا بل أكثر من ذلك، كان من صلب مشروعه الإمبريالي المستمر. فالنظام السياسي القائم في لبنان، ومنذ وجوده ككيان مستقل، لم يكن، لا في الشكل ولا في المضمون وكذلك في الوظيفة، إلّا استجابة لخارجٍ استثمر مبكراً في طبيعة هذا البلد وتركيب منظومته، السياسية والاقتصادية، القائمة على الجمع بين الطوائف، ككيانات "مستقلة" ضمن منظومة تحاصص واحدة، لكنها ليست ثابتة، تتبدل أدوارها وفق تبدل الوصايات الدولية؛ فَعَمِل، أيذلك الخارج، على ترسيخ تلك الوضعية كما على تطويرها وحمايتها. فأي خلل ناتج عن سلوك هذه التركيبة أو مشغليها، كان يُعَبّر عنه بتوترات وحروب أهلية، تَخرج البلاد بعدها بنمط علاقات جديدة تُصاغ بين مكوناتها "المستقلة" تعكس نتائج تلك الحروب. فعلى ذلك التقاطع، البنيوي والشديد الوضوح، القائم بين الداخل والخارج، سنقدم الرؤية المفترضة لفهم الظروف ولقياس المقاربات؛ فالطبيعة التابعة–المستدامة للنظام السياسي في لبنان أعطت لذلك الخارج "مونة" وازنة على الداخل، وهذا مفهوم ومعلن وليس مستتراً، وقد طاول حجم التدخل، مختلف القضايا وبكل الأساليب والطرق، ما أوجد أرضية التقاطع تلك، الواقعة بين تحديات مشاكل المنطقة وتطوراتها وتعقيداتها من جهة، واستجابة القوى الموجودة لتنفيذ أدوار مطلوبة منها في الصراعات الدائرة من جهة أخرى. هذا التناقض أوقعها في انفصام جليّ ومستدام فيطبيعة موقفها وسلوكها والدور المطلوب منها، ولو أدّى ذلك إلى تناقض مع "شريكها" المحلي. وهذا ما شهدناه تكراراً طوال مرحلة من عمر لبنان المستقل. بالاستناد إلى هذه القراءة يمكننا مقاربة هذا الحدث "التاريخي"، الذي يجري اليوم، بغض النظر عن النتائج المتوقعة أو المرجوة منه؛ هو حدث غير مسبوق في التاريخ المعاصر للبنان، بحيث ينتفض الشارع متخطّياً، ولو بالشكل، حدود الانقسام المذهبي والطائفي والمناطقي الذي عاشه أطواراً متتالية من الزمن. فهذا الانزياح "الجنيني"، الذي ظهر، وفي كل المناطق، والذي عُبّر عنه بخطاب موحّد، إلى حدٍ يمكن البناء عليه، قد يجعل إمكانية التفلت من كوابح المذاهب والطوائف أمراً متاحاً ولو جزئياً، بالإضافة إلى تلمس حالات من التمرد الخجول على خطابات سياسية، لطالما ربطت الجمهور بمصالح من خارج مصلحته المباشرة، فظهر الناس في انتفاضتهم اليوم وهم أكثر جرأة على الإشهار بغضبهم، والذي لم يرقَ بعد إلى حالة من التفلت أو الانفكاك عن وعيهم الطائفي باتجاه آخر وطني أو طبقي، وهذا أمرٌ لا يمكن التغافل عنه أو تخطّيه، إذ لا يمكننا هنا تسجيل تقدم ملحوظ في هذا المجال بل إرهاصات محسوسة أو مفترضة لذلك التقدم، لا بدّ من التدقيق فيها، وأخذها من ثمّ، في الاعتبار. وعليه، يبقى الرهان على تجذير تلك النزعة "الانفصالية" الحاصلة ولو جزئياً وتطويرها إذا أمكن، ومن ثم تثبيتها عند الحدود التي نستطيع البناء عليها. هذا الأمر يتطلّب إحداث تلك النقلة النوعية المطلوبة، وبعيداً عن أي أوهام أو التباسات، بين حدّين متوازيين: حد المجاهرة المعلنة برفض السائد والموروث، وحدّ الاقتناع بالخطاب المعلن والموجود اليوم والمُعَبّر عنه في الشارع، ولو بطريقة مرتبكة. وهذا لن يتم إثباته والركون إليه، إلّا من خلال توضيح السقف السياسي وخطابه المعلن ونتيجته، والتي ستشكل فرزاً واضحاً في المواقف، لا لبس فيه ولا التباس، وهذه هي النقلة النوعية المطلوبة اليوم والتي يمكن الرهان عليها لبناء المستقبل. إن المجاهرة في رفض النظام السياسي القائم، وتحميله وزر الأزمات المتلاحقة، والتي أوصلت البلد إلى الانهيار واستكمالاً، تحميل من تولى السلطة المسؤولية السياسية عن ذلك، باتت من ثوابت كل تلك الساحات، وإن تباينت أو التبست بين ساحة وأخرى، أو اندرجت في خانة ردة الفعل العفوية، وأحياناً المفتعلة. كما أن ضرورة إحداث تغيير في بنية السلطة السياسية وفي المنظومة الحاكمة، شغل قسماً كبيراً من الخطاب السياسي المواكب، والذي كان يترجّح بين سقوف متباعدة، وأحياناً متناقضة. فالمسافة بين الحد الأقصى والحد الأدنى للخطاب، لا تقاس هنا بالفارق الجوهري أو النوعي، بل بمنطق الاختلاف الحاصل والمعلن بوضوح في الوعي السياسي لهذا الشخص أو ذاك أو لهذه المجموعة أو تلك وكذلك لخياراتها. فنكاد نتحصل، وفي الوقت نفسه، على موقف سياسي واضح وعالي السقف من كل الساحات وأيضاً نقيضه. وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدل على حجم التفاوت الموجود بين المشاركين، وأيضاً على شمولية الحراك الذي يشمل أكثرية الشعب اللبناني، بمناطقه وإقطاعاته السياسية والطائفية والاجتماعية والطبقية. بناءً على ما تقدم، فإن استخراج الموقف السياسي من نبض الشارع يصبح بذاته أمراً أكثر إلحاحاً، وإن لم يشكل إجماعاً آنياً. الخلاصة المحققة من كل تجارب التعايش مع هذا النظام السياسي تؤكد بأنّ لا حل إلّا بتغيير أساسه، وإعادة تكوين السلطة على قواعد جديدة، انطلاقاً من ثابتة، ولو أنها غير مكتملة العناصر، وهي أن الشعب قد تخطّى، ولو مرحليّاً، حاجز الخوف الوجودي الذي وضعه فيه أصحاب الطوائف. وعليه، يصبح الانطلاق من هذه الأرضية الصلبة للموقف الذي سيُبنى عليه المشروع، قادراً على إطلاق برنامج تأسيسي لدولة وطنية بمهام وبرامج وسياسات تستطيع من خلالها التصدي، بكفاءة وبمسؤولية، للتحديات الكبرى التي ستواجهها مستقبلاً، إن كان على مستوى مواجهة الأخطار والمشاريع الإمبريالية من خلال إقفال أبوابها إلى الداخل وتعطيل مفاعيلها، أو على مستوى تحديات مشاكل الداخل الذي يعاني، بدوره، فقدان المناعة المطلوبة. إن بناء الدولة يجب أن يلحظ ضرورة الربط ما بين طبيعتها ووظيفتها، لأن التركيبة الداخلية للمنظومة السياسية هي شرط أساسي لإشهارالأساس الحقيقي لبرنامج المواجهة. لقد أهدرت التركيبة الحالية، المتوارثة والمهجّنة، والتي حكمت البلد منذ مدة طويلة، الكثير من الوقت والفرص والإمكانيات؛ فطبيعة النظام السياسي القائمة على المذهبية والطائفية، قد أفقد النظام متانة وحدته الضرورية للتصدي لمستلزمات بناء الدولة بكليتها. كما أن العلاقة التشاركية بين الكتل المكوّنة لتلك التركيبة جعلت نمط العلاقات البينية بين أطرافها تتّسم بالريبة وأحياناً بالتوجس، ما جعلها تهتز عند أي حدث، داخليّاً كان أم خارجيّاً. فمع تلك التركيبة المصطنعة، وبدورواضح من الخارج، أصبح لكل مكوّن علاقاته الداخلية، التي ترسمها خطوط الطوائف وحدود مصالحها وتقاطعاتها وطبيعة سلوكها، وأيضاً نمط علاقاته الخارجية، التي يستمد منها الدعم والمؤازرة متى تطلبت خياراته الداخلية ذلك، أو متى طلب منه الخارج تنفيذاً لأجنداته. في الحصيلة المضمونة، أصبحت المناعة الداخلية للبلد، ربطاً بنظامه السياسي، غير قادرة على الوقوف في وجه هذه التحديات. ومع هذا الثقب الأسود المُتأتّي من ذلك، وخطورة فتح الطرقات الداخلية أمام تلك المشاريع، فإن البناء على شمولية التحرك يصبح الهدف المطلوب، وإن شابه بعض التشويش المقصود أو المخطط له، نظراً لأنّ الغاية الكبرى (الشمولية) تفسد الغايات المشتبه فيها (الجزئية) وتعطّلها، حتى ولو أدارتها دول ومنظمات ورؤوس أموال لها ارتكازاتها الطائفية والمذهبية. كما أن الانكفاء خلف نظرية المؤامرة، والتي هي موجودة بكل تأكيد، والتستّر بها، لا يمكن أن يؤسس لمواجهة جديّة معها، لا بل يعطي أصحابها دفعاً إضافياً نحو تحقيق غايةٍ من اثنتين: إمّا تحقيق أهدافهم وإمّا إحباط الأهداف الحقيقية للانتفاضة، وفي كلتا الحالتين هو انتصار لهم وهزيمة لنا. لذلك يصبح فرز الساحات ضرورة تفرضها موجبات المواجهة وضمانة مزدوجة، للنجاح ولمنع المصادرة في الوقت نفسه. على تلك الأرضية، يصبح طرح شعار إسقاط النظام السياسي في لبنان ضرورة في المواجهة الشاملة مع المشاريع الإمبريالية المقيمة في منطقتنا أو القادمة إليها؛ فالطبيعة التابعة للنظام السياسي هي بذاتها إحدى أدواته، وعليه تصبح المقاربة أكثر جدية وموضوعية ووضوحاً، وأكثر قابلية للتحقّق، فيما لو أن زخم تلك التحركات جرت الاستفادة منه في هذا الإطار. وأيضاً، فإن الدور الخارجي لن يكون بعيداً عن الاستفادة من هذا الوضع، وأن يستثمر فيه تنفيذاً لمشروعه، منطلقاً من نقاط ارتكاز محلية، سياسية ومالية واقتصادية. أمّا مهمة التصدي لهذا "العدوان"، فيجب أن تكون من خلال تعديل موازين القوى لمصلحة من يرى في النظام السياسي الحالي وسياساته وسلوكه استجابة لمشاريع غربية تحاول وضع يدها بالكامل على المنطقة، ما يحرم الخارج، في هذه الحالة من أدواته، ومن لعب دوره، ما قد يفقده إمكانية الاستخدام والتجيير والاستفادة. إنّ الانتفاضة الشعبية دخلت لاعباً جديداً على خط التوازنات السياسية والتحالفات في لبنان. وعلى هذا الأساس يصبح تطويرها وتصعيدها مسألتين ضروريتين تفرضهما طبيعة المواجهة القائمة؛ فتغيير السياسات مرتبط بتغيير موازين القوى وإعادة تشكيل السلطة وفق مكونات جديدة، تعكس، إلى حد مقبول، طبيعة القوى السياسية والمجتمعية التي تمثل، ليس على صعيد القضايا فقط، بل على صعيد نبض الشعب اللبناني الذي يرفض المشاريع التقسيمية في المنطقة وفي لبنان، ويعمل على مقاومتها والتصدّي لها، كما يرفض في الوقت ذاته التبعية للسياسات الاقتصادية والمالية والارتهان لها ولمؤسساتها الدولية، والتي تشكل الذراع المالية للإمبريالية. وعلى هذا الأساس نرى اليوم بأن المهمة الأساس هي استكمال تلك المواجهة، باتجاه إعادة تشكيل السلطة وفق آليات جديدة تعكس المستجد الحاصل داخلياً، مع الإشارة، لا بل التأكيد، أنّ "الخرق"، باتجاه بنية النظام، لن يكون إلّا أحد الأهداف التي يجب الوصول إليها، وأيضاً من خلال التحوّل باتجاهات جديدة في الاقتصاد وبوجهة تحررية، من إرث متوارث لا يزال معمولاً به إلى آخر يكسر بأبعاده، وبما يهدف إليه، التبعية المتوارثة، ويفتح أفقاً جديداً يتماشى مع المتغيرات الحاصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي. فالتكامل الاقتصادي بين الدول مع الانفتاح على أسواق أو وجهات جديدة يمكنها أن تشكّل الخرق الحقيقي لتغيير مسار تقليدي أوصل البلاد إلى الأزمات المتتالية التي نعيشها. هذا الأمر يتطلب النظر في اتجاهات جديدة تخالف السائد، وتعمل لاستمالة قوى إضافية، ومن مواقع متقاربة؛ قوى تستطيع تقديم دعم إضافي، مطلوب بإلحاح الآن، إن أردنا التأسيس لمرحلة جديدة في الوضع اللبناني ومساره، وإلّا سيلزمنا عقوداً إضافية من السنوات كي يعاود الشعب اللبناني حركته هذه؛ ربما لأن دورة "الاستفاقة" له، يلزمها أطواراً كي تتجدّد.
Read more...

تحديات الانتفاضة وتسارع الانهيار

Published in لبنان

أربعون يوماً والانتفاضة الشعبية مستمرّة، والسلطة السياسية بأطرافها عموماً لم تُقدِم حتى تاريخه على تشكيل حكومة، أية حكومة، لا تكنوقراط ولا تكنوسياسية، ولا حكومة أكثرية. وحتى تاريخه، لم تتجاوب السلطة مع مطالب الانتفاضة بالانخراط فوراً في طريق الإصلاح وإعادة تكوين قواعد السلطة. كما أنّها، بتجاهلها لانتقال الأزمة الاقتصادية والمالية من مرحلة بدايات الانهيار إلى مرحلة الذروة فيها وسط عدم وجود أية حكومة، تحاول نفض يدها والتنصّل من مسؤوليّتها المباشرة عن الجريمة الوطنية الكبرى المتمثّلة في كارثة الانهيار المالي والنقدي الذي يعرّض اللبنانيين للإفقار والبطالة وصولاً إلى المجاعة. إنّ السلطة، بفعلتها هذه، تعمل من دون تردّد على إلقاء تبعات النتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمّرة على عاتق الأغلبية الساحقة من اللبنانيين، ولا سيّما الفقراء منهم، فتضعهم بشكل قسري أمام خيارين أساسيّين: إما الخضوع لسياساتها أو تعميم الفوضى المحفوفة بالعودة إلى زمن النزاعات الأهلية المدمّرة. وتستقوي السلطة في الحالتين بتبعية نظامها السياسي الطائفي للخارج الذي تعود له الكلمة الفصل في تعيين رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي وكل ما يعود لحيثيّات "الحرية والسيادة والاستقلال". وهذا بالتحديد ما نشهده اليوم من خلال ما يتسرّب من معطيات ومؤشرات عبر قنوات التفاوض مع الطرف الأميركي، على تشكيل حكومة تكنوسياسية تخضع لمواصفاته وتوجيهاته وتعيد تجديد النظام الطائفي المحتضر، بدلاً من الاستجابة لمطالب الانتفاضة الشعبية وطرق أبواب الإصلاح السياسي الذي هو المدخل الفعلي لأيّ إصلاح اقتصادي أو مالي يمكن البناء عليه. هذا مع العلم أنّ تسليم الأوراق للطرف الأميركي، والغربي عموماً، يأتي في الوقت الذي يتراجع فيه نفوذ هذه القوى في المنطقة العربية وخصوصاً في لبنان. إنّ رفض السلطة السياسية اللبنانية تشكيل حكومة انتقالية، وطنية من خارج منظومتها الحاكمة، وبصلاحيات استثنائية بما في ذلك صلاحية التشريع، يثير قلقاً كبيراً في صفوف اللبنانيين حول عدم استرجاع المال والأملاك العامة المنهوبة وعلى عملية إلقاء تبعات الأزمة الاقتصادية والمالية على الفئات الاجتماعية المسحوقة. وهذا القلق المشروع يعود إلى أنّه من غير المعقول أن تشرّع هذه السلطة قوانين ضدّ مصالحها السياسية والطبقية، وتكشف بشفافية عن المكامن الملموسة لفسادها، الأمر الذي سوف يحمّلها المسؤولية الأساسية عن تفجّر المحنة الاقتصادية والاجتماعية التي تثقل راهناً كاهل الشعب اللبناني. ويأتي في الإطار ذاته، ما دأبت عليه بعض قوى "المعارضة" السلطوية التي تركب موجة الانتفاضة للتهرّب من تحمّل مسؤولياتها عن الأزمة وارتباطاً بأجنداتها الخارجية، إلى اعتماد اسلوب قطع الطرقات، مدركة أضراره في هذه الظروف على الانتفاضة لجهة حرفها عن أهدافها الوطنية والاجتماعية، بوضع شارع في وجه شارع آخر الذي سرعان ما استجاب وأطلق التهديدات على المنتفضين التي طالت المقاومين في محافظتي الجنوب وبعلبك-الهرمل الذين لم يقطعوا لا طريقاً ولا زاروباً حيث تمّ الاعتداء (المُدان) عليهم في ساحة المطران في بعلبك وساحة الحرية (دوار العلم) في صور وحرق خيمهم للمرة الثانية، في رسالة واضحة إلى الشعب اللبناني مفادها الآتي: "اختاروا أيها اللبنانيون إمّا الموت غير المباشر جوعاً او الموت المباشر قتلاً بالفتنة"، وهو الأمر الذي لطالما دأبت عليه تاريخياً الأطراف المتنفّذة داخل هذه السلطة كلّما تهدّدت مصالحها السياسية والطبقية في مواجهات شعبية كبرى. تلك هي بوصلة الانتفاضة في تجاوز هذه التحديات مقدّمين أحرّ التعازي إلى عائلتيْ شهداء الوطن الذين سقطوا على طريق الجية حسين شلهوب وسناء الجندي. مثل هذا السلوك السلطوي هو الذي يجرّ البلاد دونما شكّ نحو الفوضى ويفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية وازدياد الضغوط الأميركية السافرة والمُدانة، بحسب ما تشير إليه يوماً بعد يوم بيانات السفارة الأميركية والتصريحات المتكرّرة للمسؤولين الأميركيين، وآخرهم فيلتمان، والتي تستوجب المزيد من التصدّي الشعبي لها وإطلاق كل المبادرات المتاحة ضدّها بمختلف أشكال وأساليب الشجب والاستنكار. وهذه التدخلات مرشّحة للتصاعد طالما بقيت السلطة مفتقدة لاستقلاليّة قرارها السيادي، الأمر الذي يتيح لتلك التدخلات توظيف ما يحصل من تطورات في لبنان في خدمة مشاريعها العدوانية المعادية لمصالح الشعب اللبناني ومصالح شعوبنا العربية. وهذا ما ينطوي على أخطار ينبغي التصدّي لها ولأدواتها الداخلية من قِبل كل القوى الديمقراطية والهيئات واللجان الشعبية المنخرطة في الانتفاضة.أربعون يوماً مضت على الانتفاضة الشعبية، والسلطة لم تحرّك ساكناً لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية التي انتقلت مظاهرها من مرحلة بدايات الانهيار باتّجاه مرحلة الذروة فيها. وتهدف السلطة من خلال تجاهلها للواقع الاقتصادي والاجتماعي المأساوي، إلى إرباك الانتفاضة وضربها واجتثاث ما حملته من معانٍ ودلالات عميقة سوف تبقى راسخة في الحاضر والمستقبل. أمّا أبرز مظاهر التسارع في هذا الانهيار فتتمثّل في الآتي: • بلوغ تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار ( دولار مقابل 2000 ل.ل) والحبل على الجرار، ما يعني تهديد القوة الشرائية للرواتب والأجور والتعويضات ومعاشات التقاعد، حيث لم يعد بالإمكان توفير الحاجات الضرورية للعاملين الذين يتقاضون مداخيل بالليرة اللبنانية. • اتساع ظاهرة الفقر والعوز والجوع لا سيّما لدى المُعطّلين عن العمل والمهمشين الذين بالأساس لا أجور أو مداخيل لديهم إضافة إلى المياومين وعموم المواطنين الذين يفتقدون إلى الضمانات الاجتماعية. • ازدياد خطر تبخّر قيمة تعويضات صندوق نهاية الخدمة في الضمان الاجتماعي وسائر الصناديق الضامنة، لا سيّما إذا ما تم إقرار مشروع قانون ضمان الشيخوخة الحالي الذي لا تزال معظم مرتكزاته موضع جدل وتباين. • احتمال التوقف عن دفع أجور العاملين في المصانع والمتاجر والمؤسسات بسبب الإقفال والصرف الكيفي. • ازدياد القيود المنفذة في المصارف على الودائع والتحويلات، حيث يعجز أصحابها عن سحبها أو الحصول عليها أو تحويلها كما يريدون لتسيير أعمالهم وصرف أجور موظفيهم جراء تفرد المصارف في تقرير العلاقة مع المودعين والمقترضين بمعزل عن الدولة، كما هو واقع الحال راهناً. • وصول تأثير الانهيار المالي إلى السلع والمواد الأساسية المستوردة بالدولار من الخارج نتيجة القيود المفروضة على التحويلات بالدولار، حيث أنّ بعض السلع بدأت تُفقَد من الأسواق والمستشفيات أعلنت أنّ احتياطاتها من المعدات الطبية تتضاءل بشكل سريع. • التصاعد المريع في معدلات البطالة والارتفاع غير المسبوق في الديون المشكوك في تحصيلها من المؤسسات المتعثرة والمفلسة. • تفاقم مشكلة السكن جراء تحرير جزء كبير من عقود الإيجارات بالدولار في حين أنّ أجور ومداخيل معظم المستأجرين هي بالليرة، مع تسجيل ندرة متزايدة للدولار الأميركي في الأسواق المحلية. إن العجز المتمادي للسلطة السياسية عن فرض الآليات والاجراءات التي يجب القيام بها لفرض التعامل بالليرة اللبنانية – بدلا من الدولار - في عمليات الشراء والبيع في الأسواق الداخلية، وسط استمرار عدم الاستقرار في أسعار الصرف.إزاء ما يحصل على المسارات كافة، فإنّ قوى الانتفاضة مطالبة بالانتقال إلى مرحلة تصعيدية جديدة، بدءاً من توسيع دائرة الحوار المتعلق بالانتفاضة الذي استهلّته الورشة الحوارية حول المرحلة الانتقالية وبرنامجها، مروراً بتوسيع وبلورة إطار المواجهة الشعبية وتصعيد أشكالها، ضمن خطة تحركات تصعيدية متدرجة وصولاً إلى إعلان العصيان المدني. وهذا يشمل أيضاً التوجّه إلى المتضررين -الذين دفعوا ويدفعون وسيدفعون أكثر فأكثر تكاليف الانهيار فقراً وبطالة وهجرة- كي يشبكوا الأيادي ويوحّدوا الصفوف منعاً للفوضى والفتنة ووقوفاً بوجه التدخلات الخارجية وأدواتها السلطوية وحيتان المال، وكذلك بوجه محاولات بيع ما تبقّى من مؤسسات للدولة تحت شعار كاذب ومخادع هو تنفيذ ما يُسمّى "الورقة الإصلاحية"، مع ما تتضمّنه من خصخصة للمرفأ والمطار والاتصالات والمرافئ وشركة طيران الشرق الأوسط والكازينو وغيرها وتعميم التعاقد الوظيفي وضرب نظام التقاعد. إنّ أية حكومة يُراد تشكيلها يجب أن لا تعيد إنتاج السلطة السياسية عينها ما سيزيد الأزمة السياسية والاجتماعية تفاقماً بينما المطلوب حكومة انتقالية وطنية قادرة على التصدّي للتدخلات الخارجية والضغوط الأميركية وتقديم حلول ملموسة لكلّ ما تقدّم من مخاطر حول مظاهر الانهيار المالي والنقدي والاجتماعي، وفي أولوية برنامجها مسألتان أساسيّتان: أوّلاً، رؤيتها لبرنامج المرحلة الانتقالية، وفي مقدّمها: إقرار قانون للانتخابات النيابية على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي (المادة 22 من الدستور)؛ وتحديد طرق استرداد الأموال العامة المنهوبة؛ وتأسيس نظام ضريبي تصاعدي يطال المداخيل والأرباح والثروات والريوع الكبيرة؛ وابتداع إجراءات مفصلية تتيح إعادة هيكلة مكوّنات القطاع العام، لا سيّما المؤسسات العامة والمصالح المستقلة. ثانياً، معالجة مظاهر الانهيار المالي والنقدي بما يؤمّن الحماية الاجتماعية بشكل أساسي للعمال والأجراء والموظفين والفئات الدنيا الفقيرة والمتوسطة، ليُصار إلى تركيز الإجراءات على الفئات التي استفادت بالدرجة الأولى من سياسات الحكم واستحوذت على الريوع والفوائد والأرباح وشاركت في نهب المال العام.  
Read more...

التغيير الجذري يغلق أبواب التدخل الخارجي

Published in لبنان

يلعب العم سام لعبته المفضلة اليوم. استغلال المتغيرات والتناقضات الداخلية القائمة، ومحاولة التأثير عليها لاستثمارها في حسابات مصالحه السياسية. الكونغرس الأميركي يناقش في جلسات علنية التطورات في لبنان. تبرز تناقضات بين أعضائه حول ماهية الوسائل الأفضل لاستثمار الانتفاضة الشعبية. يقول فريق منهم أنّه من الضروري وقف دعم الجيش وتضييق الخناق حتى يستسلم الجميع للضغوطات والشروط المطلوبة، فيما يقول فريق آخر أنّه من الهام جداً تقديم حزمة مساعدات للجيش، لتصوير أميركا أنها تريد الخير للبنان وشعبه، من أجل كسب ثقته، والدفع قدماً بحلفائها على قاعدة وعود بالإنقاذ الاقتصادي إذا استجاب اللبنانيون للضغوط. وحجة الفريق الثاني أنّ الانهيار الشامل سوف يفتح المجال أمام القوى المناوئة إقليميّاً ودوليّاً للدخول وملء الفراغ وكسب لبنان في صفّهم. ومن ضمن جلسات النقاش والاستماع تقدم جيفري فيلتمان، السفير السابق في لبنان، برأيه أمام الكونغرس، وهو من مؤيدي وجهة النظر الثانية. وعلى ما يبدو أن الاتجاه العام للإدارة الأميركية سينحو في هذا الاتجاه خاصة أن مواقف وزراء الخارجية والدفاع أقرب اليوم إلى هذا الرأي. نقول للأميركيين أن انتفاضتنا ترفضهم وتلفظهم، وأنّنا هبينا إلى الشارع ضد هذا النظام الطائفي وسياساته الاقتصادية الريعية التي أوصلت البلاد إلى نفق الانهيار لا لنفتح لهم باب التدخل، بل على العكس تماماً، لنوصده بوجههم بكل ما أوتينا من قوّة. إن الظروف مؤاتية اليوم لتحقيق تغيير جذري في بنية نظامنا التابع للامبريالية في السياسة كما في الاقتصاد، وبدء مسار بناء دولة علمانية ديمقراطية مقاومة، تحقق سيادة بلدنا واستقلاله الحقيقيين، وتبني اقتصاداً منتجاً لا يمكن إخضاعه لإملاءات السفارات والصناديق ولا لمصالح الريوع وكبار الرأسماليين كما هو الواقع اليوم بقيادة أحزاب السلطة الحاكمة. فمشروعنا للتغيير السياسي، هو هو طريقنا إلى التحرر الوطني. فلتفتح أبواب التغيير لتغلق معها أبواب التدخل الخارجي.
Read more...
Subscribe to this RSS feed